آخر تحديث :الإثنين-17 يونيو 2024-01:41م

أنَا وَحْدَوِيٌّ حتّى النُخاعِ

الثلاثاء - 21 مايو 2024 - الساعة 02:24 م

د. مجيب الرحمن الوصابي
بقلم: د. مجيب الرحمن الوصابي
- ارشيف الكاتب


إنّمَا أنَا وَحْدَوِيٌّ حتّى النُخاعِ...وَكَمْ حَدَّثتني نَفْسي بالانْفِصَالِ!

جَدلِيةُ الوَحدةِ فِيْ الانْفِصالِ ودوامَةُ الثُنائياتِ.

مِنَ الثُنائياتِ الضِديّةِ المُتلازِمَةِ، كَالرّجلِ وظلِهِ هي ثُنائيةُ الوَحدةِ والانفِصالِ ... فَلا انفصالَ أضْحَى دونَ وحْدةٍ كَانتْ؛ ولا وحْدة تغْدو دونَ انفصالٍ سبقه؛ كذا تنشأُ العلاقاتُ بينَ الأفرادِ والأزواجِ ... الجماعاتُ والشعوب، تقومُ دولٌ وتضمحِلُّ أُخَرى... سُنةُ اللهِ في الأولينَ والآخرينَ... صيرورةُ الوجودِ وحركته "إنّما أنا وَحْدَوِيُّ للنُخاعِ"! وَكَمْ حَدَثتني نَفْسيْ بالانْفِصالِ!

الوحدةُ مِنْ ألفاظِ التضادِ إذْ تحملُ معانيَ متباينةً ودلالاتٍ " فالوحدةُ مِن (الواحد) المُفردِ غيرُ الوحدةِ من (الاتِّحاد)، وهي متداخلة مع مفاهيمَ عِدّة (الكثرة) و(القلة) ... (الجزءُ) و (الكلُّ) ويصعبُ فصلها عن مفهومي الانفصال والاتصال.

كلُّ شَيءٍ فِيْ هذا الكونِ مُركبٌ مِن أجزاء و(أعراض)، وكلَّ جزءٍ يمكنُ تجزئته وتعداد نعوتِه وهي متبدِّلة، إلا ذاتَ الواحدِ الصمدِ التي صفاته هي عينُ ذاتِه وغيرُ منفصلةٍ عنه ولا متبدِلة.

حَتّى ذاتُ الإنسانِ وهي (جوهرٌ) لا تسلمُ من هذهِ الثُنائيةِ؛ فقدْ تتوحدُ مع الآخرين منفصلةً عن ذاتِها وقد تتوحد مع ذاتِها منفصلة عن الناسِ، وقد تجمع بين الأمرين (الوحدة والانفصال) وهذا قمةُ الكمال والوعي، والأهم من ذلك هو الوعي بهذه الجدلية.

الأزْمةُ الوجُوديّةُ التي تعصفُ بالبلاد والعباد في (اليمن) وهو (اليمن) لفظٌ مذكرٌ مفردٌ يحوي معنى (الجمع) (والجزء)؛ إذِ اليومَ (لا وحدةَ ولا انفصال)، هي فرصةٌ علينا اغتنامها لإعادة التفكير في هذه الثنائية وتفحُّصها بعد التسليم بِها، وإدراك أنّ المسألة هي في الأصل تخيلية سردية ورغبة (حاجات نفسية) تحركها المصالح والأيدولوجيات أكثر مِنَ الاقتصاد والجينات؛ ذهبت بنا دون وعي إلى الخرابِ والموت وارتبطت بشعارات هي استعارات بلاغية خطرة كارثية ومؤثرة مثل: (الوحدة أو الموت، دم الجنوبي على الجنوبي حرام).

إنّ" الوحدة عبادة"، أمَّا "الوحدةُ معَ الله " شريعة أُناسٍ مُتهمين في عقولهم ولا أتهمهم أنا! ...حتى كِبار المنظِّرين للانفصال وعرّابيه وأعرفهم؛ هم يسعون إلى وحدة بنيانهم ما يسعون لانفصاله؛ ولو بالغوا وشطُّوا؛ ولمّا أبصروا أن للوحدة معنىً(إيجابيًّا) محبوبًا ومرغوبًا وللانفصال دلالة سلبية ابتدعوا مصطلح (فكّ الارتباط) فكانوا حُذّاقا.
للوحدةِ مَثالبُ سلبيّة أيضًا تتمثل في هيمنةِ (الوحدة) اللاغية لكلّ تنوعٍ، فكلّ مظاهرِ الدمج القسري في الواحد أو كلّ مظاهر التشتُّت والتفكُّك، هي آتية فيما نعتقد في الابتعاد عمّا يمكن أن نطلق عليه سياسة "التآلف والتعارف" الإيجابية بموجب سنّة "الانفصال والاتصال"، وهكذا نحتت مركزيةُ صنعاءَ واستعلائها؛ حرب صيف 1994 هوية الجنوب وناسه، وتنحت اليوم في الجنوب هويات جديدة لنفس السبب!

ربّما أجبنا ضمنيًا عن السؤال المطروح لماذا تسعى دول للوحدة أو التوحُّد ومجتمعات؟ وتسعى أخرى للانفصال أو فكّ الارتباط؟ ... ما الذي يجعل شمال المملكة المتحدة (اُسكتلندا) يطالبُ بالانفصال عن بريطانيا العُظمى وكذلك (ويلز) وهما ملتحمتان بإنجلترا، بينما آلاف الكيلومترات تفصل بريطانيا عن جزر الفوكلاند وجبل طارق وهما تستميتان في الوحدة مع الكيان البريطاني.

لِيْ مذهبٌ خاص في (الوحدة والانفصال) الذي انشغلنا به وتُهنا ودخلنا به دوامة الهوية وتنويعاتها المتغيّرة ... هو عندي الجوهر وما عداه أعراض؛ ليس لأنّي جنوبي شمالي-وكثير هم أمثالي؛ تتنازعهم أقدار الهُوية ومكائدها... نسينا فيها الإنسان على هذه الأرض ... وكرامته..

إنّها الكرامةُ ... كرامة الإنسان هو مذهبي شمالًا وجنوبًا ... الكرامة ... حيث الكرامة فثمَّ وجه الله!

مجيب الرحمن الوصابي