آخر تحديث :الأحد-28 أبريل 2024-08:59م

آخر حبة في الكرتون

السبت - 13 مايو 2023 - الساعة 01:45 م

أحمد عمر باحمادي
بقلم: أحمد عمر باحمادي
- ارشيف الكاتب


امتلأ التاريخ البشري وعجّ بالكثير من الأمثلة ممن اعتدّ برأيه الخطأ وحسب نفسه أنه ( أشطر واحد في الكون .. وآخر حبة في الكرتون ) وعليه فقد ( ودّف ) بمن خلفه من الأتباع والأنصار والمستعبدين ..!!
فعلوا ذلك حباً في الاستفراد بالحكم أو اتباعاً لشهوة الكرسي والزعامة أو اهتبالاً لمصلحة شخصية وفائدة ذاتية أو طلباً لمجد شخصي دون أخذ مصلحة المجتمع على محمل الاعتبار .. فكان ما كان من أمرهم.

قائد القوم في متلازمة ( آخر حبة في الكرتون ) وأولهم هو فرعون مصر .. ذلك المستكبر الذي بلغ به الغرور والعتو إلى ادعاء الألوهية والربوبة فكان عاقبة أمره الهلاك ..

فقد جاء في موسوعة ابن أبي الدنيا عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله قال : لما قال فرعون لقومه : {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} نشر جبريل أجنحة العذاب غضبا لله - عزَّ وجلَّ - فأوحى الله - عزَّ وجلَّ – إليه : أن يا جبريل إنما يعجل بالعقوبة من يخاف الفوت، قال: فأمهله - عزَّ وجلَّ - بعد هذه المقالة أربعين عاما حتى قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] فذلك قوله - عزَّ وجلَّ -: {فأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات: 25]، قوله الأول وقوله الآخر، ثم أغرقه الله - عزَّ وجلَّ - وجنوده.

كذلك قارون اغترّ بماله ودخل في ركب ( آخر حبة في الكرتون ) فقد فَتنَ بماله ألباب الناس {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } ..

فقد آتاه الله أموالاً عظيمة، لكنه لم يشكر لله ويعترف بفضله بل كان يدعي أنه جمعها بعلمه وقوته، فكان يختال ويتكبر على الناس بها، فعاقبه الله بأن خسف به وبداره الأرض عقوبة له وليكون عبرة لمن خلفه.

النمرود الذي ادعى الإحياء والإماتة وحسب نفسه (آخر حبة في الكرتون) ممن يستطيعون التصرف في الكون .. فانتهى به الحال ( ملطوماً ) بالأحذية والنعال إلى أن مات بسبب بعوضة دخلت أذنه لقد كانت تلك البعوضة كافية بأن تعلمه الدرس ويدرك أنه ( آخر حبة في كرتون ) الملوك الذين هلكوا باللطم والكفوف ..!!

أما أبو جهل فقد أصر على رأية بقتال الرسول صلى الله عليه وسلم في ( بدر ) رغم ما سمع من آراء تثني الناس وتقنعهم عن قتال أرحامهم ..

فكان أن نالته الهزيمة وألقي في بئر مع بقية من تبعوه أو استسلموا لعنجهيته .. فكان ( آخر حبة ) ليس في ( الكرتون ) بل في ( القُليب ) الذي رمي فيه من حارب الله ورسوله ..!!

ربما تشمل متلازمة ( آخر حبة في الكرتون ) التفكير الجمعي .. فقوم عاد ظنوا أنهم ( آخر حبة في كرتون القوة ) فحكى الله عنهم بقوله سبحانه: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} فجاءهم الهلاك بالريح .. { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) }

وقس على ذلك الكثير والكثير كنيرون وهتلر ولينين وستالين وغيرهم من القادة والساسة والمؤثرين الذين استبدوا بآرائهم ..

إلى أن تصل إلى عصرنا الحديث لترى دولاً عظمى تتبعها دويلات الخراب والفتنة يظنون أنفسهم ( أذكى من وجد في الكون .. وآخر حبة في الكرتون ) لكنّهم وسيراً على سنن الله سيحيق بهم ما حاق بالأولين ..!!

من يدّعون الحوار والتشاور .. هم في حقيقة الأمر يفعلون عكس ذلك ويستبدون بآرائهم ولا يعترفون بمبدأ ( الحوار ) ..

لا نـأتي بفرية بل تاريخهم يشهد عليهم .. فكانت السيطرة والاستحواذ وفرض الإرادات بالقوة هي قواعدهم السائدة في سجل سياساتهم من بدايتها إلى نهايتها.

يصدق فيهم قول الغزالي في الإحياء : ( الْعُجْبُ بِالْعَقْلِ وَالْكِيَاسَةِ وَالتَّفَطُّنِ لِدَقَائِقِ الْأُمُورِ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَثَمَرَتُهُ الِاسْتِبْدَادُ بِالرَّأْيِ وَتَرْكُ الْمَشُورَةِ وَاسْتِجْهَالُ النَّاسِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ وَلِرَأْيِهِ وَيَخْرُجُ إِلَى قِلَّةِ الْإِصْغَاءِ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ إعراضاً عنهم بالاستغناء بالرأي والعقل واستحقاراً لهم وإهانة ( ... ) فإن القاصر العقل قط لَا يَعْلَمُ قُصُورَ عَقْلِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ مِقْدَارَ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ أَعْدَائِهِ لَا مِنْ أَصْدِقَائِهِ فَإِنَّ مَنْ يُدَاهِنُهُ يُثْنِي عَلَيْهِ فَيَزِيدُهُ عُجْبًا وَهُوَ لَا يَظُنُّ بِنَفْسِهِ إِلَّا الْخَيْرَ وَلَا يَفْطَنُ لِجَهْلِ نفسه فيزداد عجباً).

ويقول الراغب الأصفهانى في ( الذريعة إلى مكارم الشريعة ) : ( ترك الاستبداد بالرأي، فالاستبداد بالرأي من فعل المعجب بنفسه، وقد قيل : الأحمق من قطعه العجب بنفسه عن الاستشارة، والاستبداد عن الاستخارة. ). وما أجمل أن نختم مقالتنا بكلام القاضي/ حسين بن محمد المهدي في كتابه ( صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال ) :


( الحكيم من الناس من يستشير وياخذ بالحكمة ويجتنب الاستبداد بالرأي، والحكيم من يضع الاشياء في مواضعها فيبحث عن الحق من اجل اصابة الصواب، وموافقة الحق والعدل في القول والعمل..

فالانسان لايكمل بنفسه وانما يستعين بالله وحده، ويستشير غيره من أهل الشورى حتى تكون اقواله وافعاله منتظمة محكمه، سائرة على منهج العدل الذي امر الله به،

فمن أراد حسن التدبير، والحكم بأمر العزيز القدير، فليجعل الشورى سبيله ومنهجه ودليله، فان ذلك من الحكمة، وفيه طاعة لله، وفضل من الله ).