آخر تحديث :الخميس-02 مايو 2024-01:27م

صالح الحميدي.. وداعا يا وتد الأرض..!

الخميس - 07 يوليه 2022 - الساعة 12:52 م

ياسين الرضوان
بقلم: ياسين الرضوان
- ارشيف الكاتب


التقيت به في القاهرة على هامش زيارة سريعة، مزوحٌ جدا، كأنه قطر متساقط من السماء، لا ينتهي أبداً، إنه أحد أوتاد هذه الأرض، ورغم أننا التقينا لمرّة واحدة، كأننا التقينا دهرا، الحكمة دائما ليست في الأوقات الكثيرة التي يقضيها الإنسان مع أخيه، بل بحجم ما في الدواخل، وفي الدواخل أشياء كثيرة وكبيرة لمثل هكذا رجل عزّ علينا رحيله..

كنا نتجول في أحد شوارع القاهرة، ودخلنا محال عدة، كان سلسا رقراقا كالماء الذي يتسرب إلى قلب كل من قد يُقابله، موهوب بالفطرة في كسب المواقف، يذيب جليد أي حدود يمكن أن تضعها الظروف والشخوص والمناطق والأحزاب، فكان في الطريق تارة يتكلم بلهجتنا اليمنية المقلفدة، وأخرى يتكلم بالمصرية، وثالثة يتكلم العربية الهندية أو البنغالية المكسرة، وكان كل من يقابلنا يظنه من الهنود فعلا أو البنغال، كونه يشبههم كثيراً، وكل دور يؤديه من هذه الأدوار يُتقنها كثيراً، لذلك كانت تُسلّم له الأفئدة ويكسب بفضل لباقة حديثه كل المواقف..

العزاء لنا جميعاً وليس لأهله فحسب، لقد خسرنا كبيراً، وإنا على فراقه لمحزونون حقًّا، ورغم مرضه الطويل، لم نكن نتوقع أن يفتح الموت ثقب وداع أبدي داخله، لقد صدمنا رحيله وخسارتنا به كبيرة، لقد كان رجالًا كثيرون وقوما لوحده، رغم أن شقيقه الزميل "جمال حيدرة" الذي هو فعلاً قبسٌ أثير متصل بتلك الروح الجميلة والنظيفة، لقد كنا نتحدث أنا وإياه قبل أيام قلائل وجاء على ذكرنا أبا خلدون رحمة الله تعالى عليه، إذ أخبرني أن حالته صعبة للغاية، وربما قد لا ينجو هذه المرة، فهو متعب جدا، وكان يحسّ أنها رحلة ذهاب بلا عودة، ورغم أنني أعرف أن جمال من الشخصيات القوية، التي لا تهتزّ لأي سبب كان، لكني لمحت ذلك الخوف في حديثه، لكن ما كان أمامي إلا تجاوز ذلك محاولا التهوين عليه وبعث الطمأنينة في نفسه، لكن دون جدوى، إذ لا غرابة إنه اهتزاز الروح الواحدة في داخل قوالب أجساد الأخوّة الحقيقية ولو فرّقتها المشاغل والمسافات والمسؤوليات..!

اعان الله أمه وإخوته وأولاده وزوجته وكل محبيه في الداخل أو الخارج، وصبّر قلوب الجميع، ورحم صالح الصالح رحمة الأبرار الأغيار، لطهارة قلبه ودماثة خلقه وطيب مُحيّاه، ماذا عسانا نقول في هكذا رحيل رجل كالطود قلّ أمثاله، أقسم أنها خسارة فادحة لكل من عرف قيمة هذا الرجل ذي الشخصية المرحة واللطيفة والطيبة، إنه رحيل مؤجل كرحيل الشموس في ثقوب المجرّات..

من مواقف هذا الرجل النبيل، أنه كانت لديه رؤية ثاقبة تصيب في الناس، فكان كالمتخصص الذي يقطف الأزهار ويعرف قيمتها ويهديها لمن يليق بها وتليق به، كانت لديه فِراسة الإعلامي الذي يمتلك رؤية بعيدة في كل من يقابله في التخصص الإعلامي، ومنذ وقت مبكر يتنبأ بالمواهب ويساعدها في الصعود ليكسب هو ثمرة مقام المعلم لها، على عكس كثير من الأنانيين والانتهازيين والجهلة وما أكثرهم هذه الأيام، وكم أرثو لحالهم ووضعهم الصعب، إذ عندما يرون ناجحاً يُحاولون إحباطه وتثبيطه، ظنًّا أن بإمكانهم إيقاف تقدمه أو سرقة مواهبه وهذا ضرب من المستحيل وانفصام وعي ليس إلا، كان ذكياً ولماحا يفهم معادلة أن عليه أن يساعد في وصول الأذكياء وذوي المواهب لأماكنهم المناسبة..

كان يتعامل بهذا الخصوص كما لو أنه يحِل أُحجية، وعندما يجد الطوبة المناسبة مباشرة يذهب بها للبناء الناقص، إنه كالشعراء الذين يتساقط عليهم إلهام الكلمات كما لو أنها منزلة من السماء وليس لها إلا مكان واحد ولن تركب في غيره ولن تقبل تبديلها بمفردة أخرى، إنها أشبه بالغواية وهو كبنّاءٍ ناجح باحتوائه الناجحين بطريقة الأذكياء المسيطرين جدا، لذلك صار موثوقا لدى الجميع ولا مشكلة لديه في أن يتقدم أصحاب المواهب إلى الأمام، وعندما يتقدمون سيكون هو قبلهم لأنه تصرّف تصرّف المعلمين والبنائين الناجحين، وكيف للمتدربين أن يسبقوا معلميهم، طبعا لا يليق ذلك بالأذكياء والموهوبين حقا، ولذلك صار يشعر الكثيرون بالامتنان نحوه، ويدركون أنهم لا يمكن أن يخوضوا سباقا مع معلم..

لا أدري ما الذي يحصل لنا في هذه الحياة، إذ تشتتنا المشاغل وتضرب شملنا الفرقة العمياء، أستغرب على نفسي كثيراً كيف نسمح لهكذا أشخاص بالرحيل دون أن ننهل من مكتنزاتهم الكثيرة، شخصيات لن تكررها الحياة وفي تخصصات أحوج ما نكون لها في هذه الأوقات الصعبة، كم ألوم نفسي لخسارتنا هذه التِرسانة الاجتماعية، وداعا صالح ولا يأتي الوداع إلا بلوعة الفراق، وما أقساه عندما يكون أبديًّا، ليت الموت يعطي لك فرصة أخرى وتنفتح أبوابك مجدداً، لكنها لعبة القدر من ذهب لن يعود، مع ذلك أنت حيٌ في قلوبنا أيها البيدق الكبير..رحمة الله تعالى عليك، نسأل الله أن يجعلك من المجتبين أحبابه، فمن أحبه الناس أحبه الله.. وداعا كما يليق بفؤادك الذي انطفأ..