آخر تحديث :الثلاثاء-30 أبريل 2024-03:06ص

رســالــة إلــى أخــوة فــي الــيــمـــن

الإثنين - 21 مارس 2022 - الساعة 08:13 ص

د. أحمد الخميسي
بقلم: د. أحمد الخميسي
- ارشيف الكاتب


في 6 مارس 2022 نشرت الصحف أن شابا مصريا يدعى اسلام ممدوح كان يعمل مرشدا سياحيا في أوكرانيا، وحين شبت الحرب هناك، تلقى " اسلام " استغاثة من والد طفلين يمنيين هما " كريم " و" أمير" ليقوم بإنقاذهما من قرية أوكرانية منكوبة بنار الحرب ومطوقة بالاشتباكات العسكرية. كانت القرية تبعد نحو خمسمائة كيلو مترا عن منزل " إسلام"، قطعها كلها متجاوزا خطوط القتال والتماس حتى وصل القرية وأنقذ الطفلين اليمنيين. طالعت ما كتبته الصحف وأثارت الحادثة في ذاكرتي صور اليمن، وابنائه، وذكرياته العزيزة، كما قلبت علي مواجع الحرب المشتعلة في بلد الحضارات. وقررت أن أكتب شيئا مما في نفسي لقراء وأخوة يمنيين جمعتنا " عدن الغد" على صفحاتها وبين سطورها. أقول إذا كان هناك شاب مصري قد أنقذ طفلين، فقد حدث حين كنت في زيارة لعدن ربما عام 1979، ونزلت في فندق " التواهي" أن خرجت من الفندق ذات يوم، وكان معي مواطن مصري آخر بصحبة طفله، مضينا نقطع الشارع إلى أن توجع الطفل فجأة وانحنى وأمسك بطنه. وفزعنا ، فنحن في اليمن منذ يومين فقط ولا نعرف لا طبيب ولا إسعاف، ولكننا فوجئنا بأول سيارة تمر في الشارع وقد توقفت، هبط منها شاب يمني يشير إلى الطفل ويسأل عما به، شرحنا له أنه يتألم، قال : اركبوا. وقادنا إلى طبيب كشف على الولد وأعطاه الدواء وحين سألنا عن قيمة الكشف قال الشاب صاحب السيارة ما معناه أنه دفع الفلوس خلاص. ليس عجيبا إذن أن ينقذ مصري طفلا يمنيا ، وليس عجيبا أن يعود لذاكرتي اليمنى الذي أنقذ طفلا مصريا، ومن ذلك كله تصحو ذكرياتي الكثيرة عن اليمن وعن أبنائه، عن " محمد " وكان أول يمني أتعرف إليه وأنا أدرس في الاتحاد السوفيتي عام 1975، وكان يدرس اخراج في معهد المسرح وأنا أدرس لغة وأدب في جامعة موسكو. للأسف لا أذكر اسم عائلته، وإن كنت لا أنسى ابتسامته الصافية وضحكته. وأول ما لفت نظري من محمد هو الشبه العجيب بين النفسية المصرية واليمنية، نفس الصفاء، الليونة، التسامح، الميل إلى الفكاهة، وكنت أشعر حين ألتقي بمحمد وسط جمع من الأصدقاء أنني أعود إلى القاهرة وإلى أزقتها وإلى أهلي، ثم حدث في مابعد أنني زرت اليمن، ونسيت محفظتي عند بقال في عدن وبها جواز السفر وكل ما أملك من نقود، وحين انتبهت إلى أنني فقدت المحفظة شحب وجهيي متخيلا الصعوبات التي سألاقيها لاستخراج كل تلك الوثائق، عدت بخطى مترددة إلى محل البقالة وقبل أن اصل إليه رأيت من بعيد صاحب المحل واقفا في الشارع والمحفظة بيده يتلفت يمينا ويسارا بحثا عني! وما إن رآني حتى هتف وهو يقدمها إلي : " نسيت محفظتك يا رجل"! أي امتنان شعرت به حينذاك وأنا أرى في وجه ذلك الرجل العجوز كل خصال الشعب اليمني العظيم. في تلك السنوات كان الشاعر السوداني الكبير جيلي عبد الرحمن مقيما في اليمن، وكانت تربطنا صداقة قوية، فاتصلت به وحكيت له ما حدث ، فضحك قائلا : " انت يا أحمد ما تعرفش الشعب اليمنى لسه، دي أبسط حاجة من حاجاته الجميلة".

   خلال تلك الزيارة قمت بإعداد أوبريت غنائي صغير للإذاعة اليمنية عن وحدة اليمن، اذكر من كلماته : " ميه وعشرين غير التسعة من الأعوام .. من استعمار غريب يسعى في جو ظلام.. وما تنساش يا عم كمان .. لما الشعب قالها خلاص.. ما عدش طريق ما عدش مناص.. وشالوا رصاص .. ثورة من جبل ردفان".. وقمنا بتسجيل العمل فعلا وربما أذيع بعد ذلك ولكن لم تبق لدي منه نسخة لا ورقية ولا موسيقية. وعدت بعد ذلك الى موسكو لأستكمل اعدادى رسالة الدكتوراه، وهناك كنا نلتقي بصفة منتظمة بالقائد عبد الفتاح اسماعيل، الذي أقام فترة في شبه فيللا صغيرة خصصت لأجله، وكان دمثا إلى حد مذهل، وعذبا في انصاته للآخرين، وكان مدخنا نهما يشعل سيجارة من أخرى بدون توقف. وكنا نمزح معه بأنه من دون شك يدخن وهو نائم. وحدث ذات مرة أن عقد مؤتمر في موسكو تكريما لأحد الأدباء العرب أظنه لو لم تخني الذاكرة الأديب العراقي غائب طعمة فرمان، وحضر على المنصة عبد الفتاح اسماعيل مدعوا، ورحت أراقبه على مدى ساعتين لأرى كم من الوقت سيتحمل البقاء من دون تدخين في قاعة محظور فيه التدخين نهائيا؟. انشغلت بمراقبته عن الحفل والكلمات، ولم أره يمد اصابعه إلى علبة السجائر ولا مرة، ورأيت فيه ليس فقط الصفاء النفسي الذي سبق أن لمحته في صديقي محمد، لكن ارادة فولاذية وراء دماثة وعذوبة قلب انساني. ربما تغمرني الذكريات عن اليمن، لكني في نهاية المطاف أود برسالتي هذه أن أقول شيئا واحدا فقط : أننا نحن المصرييين نشعر حتى النخاع بكل ما يجري في اليمن، نشعر بمعاناة الشعب اليمني، ونحس الألم بقوة ونحن نرى أطفالا يمنيين في عمر الزهور يودعون دنيانا ، أطفال كان من الممكن أن يكونوا شعراء، علماء، أطباء، بينما تختطفهم الحرب، وتنزع من بين أيادينا الزهور قبل أن تمنحنا عطرها. كثيرا ما أسأل نفسي: و" ما الذي يسعني أن أقوم به ؟ وأتاسف لأنني فقط كاتب صحفي، ثم أعزي نفسي بأن أتمنى أن تصل كلماتي إلى أخوة لي في اليمن، ليشعروا عبر " عدن الغد " أننا في مصر نحس ما يجري، وأن اليمن عزيز على الجميع، كان مهد الحضارات، سبأ وحضرموت، وبقي أرض الثقافة وموئل عبد الله البردوني، وعبد العزيز المقالح، ومحمد علي لقمان، وظل في قلوبنا رمزا لكفاح طويل للتحررمن كل أنواع الغزوات. ولكم كنت أتمنى لو أن كلماتي كانت أرغفة خبز وحجارة مدارس وحديد مصانع في قرى اليمن، لكن تبقى ثقتي وثقة كل الشعوب المحبة للخير بأن اليمن سيخرج من المحنة أقوي وأكثر شجاعة وأعظم انسانية، وسيواصل اسعادنا بالمزيد من القصائد والفكر والعلم والفن.

         

د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري