آخر تحديث :الخميس-28 مارس 2024-02:47م

ملفات وتحقيقات


الفرنسية “لوسيل فيفرييه” تروي جانباً من جحيم الإمامة في اليمن

الثلاثاء - 17 مايو 2022 - 03:27 م بتوقيت عدن

الفرنسية “لوسيل فيفرييه” تروي جانباً من جحيم الإمامة في اليمن

(عدن الغد) متابعات


تروي الفرنسية لوسيل فيفرييه، بعد أكثر من نصف قرن، شهاداتها للتاريخ في جرائم الأئمة في اليمن، فقد دونت فيفرييه مذكرات عامي (1947-1948م) التي عاشتهما في اليمن بصحبة والدها الطبيب-العقيد بيير فيفرييه – ضمن البعثة الطبية الفرنسية آنذاك، والذي مات، ودفن في صنعاء.
ومع أن مذكراتها التي أعطتها عنوان (أحداث عشتها في اليمن) ترجمها الصحفي خالد الخالد، إلا أنها تستحق أن تكون دليل الأجيال التي ولدت بعد سبتمبر 1962م إلى واقع العهد الأمامي، وللتحقق من صدق ما سطرته الأقلام في كتب التاريخ، وأدبيات ثورة 26 سبتمبر عنه؛ لأن تلك المذكرات كانت شاهدة على الحدث، وأحد شخوص مسارحه.
ففي مايو 1947م قبل أن تشد أسرة الطبيب فيفرييه رحالها إلى اليمن، كان الانطباع الوحيد لدى الأوربيين عن هذه البلاد هو ما كتبته مارسيل: “أخبرونا في باريس أن اليمن بلد معزول عن الخارج، ولن نكون إلا ضمن حياة القرون الوسطى، والأوروبيون هناك يعيشون حياة عشر بنايات أوروبا”.
لكن مارسيل اكتشفت بعد وصولها اليمن أن الواقع أعظم بؤساً مما تخيلت؛ إذ تروي مأساة حقيقية لحال الإنسان اليمني في كنف آل حميد الدين, لا يكاد المرء يقوى على تذكرها مرة أخرى.. فهي تمر ببعض الأرياف، وتصف حالهم قائلة: “يعيش هؤلاء الريفيون الجبليون شبه عراة، فهم يغطون أجسادهم بجلد الماغز فقط، الأمر الذي أدهشنا في هذا المكان المرتفع، وحيث البرد القارس جداً.. وقد بلغنا أن هؤلاء القبائل يعيشون في فقراً مدقعاً، إلى درجة أن عدداً من النساء يتشاطرن الثوب نفسه، ويعار هذا الثوب لمن تذهب لجلب الماء من البئر.. كان منظرهم يخيفنا، لكنهم كانوا ودودين ومسالمين”.
ثم تنتقل لوصف موقف في بيت عامل باجل عندما همت وأمها دخول الحمام للاغتسال، فتقول: “صرخت أمي: أنظري ما على الماء من شعر، ربما هو شعر حيوانات! إقتربت لألقي نظرة، فرأيت شيئاً يطفو.. إنها يرقات بعوض. ما من حل غير إزاحتها بالكف وشرب مما تحتها..”. فإذا كان حال الماء في بيت العامل على تلك الصورة المقززة، فما بالنا عند عامة الناس..!
وتضيف: “لقد اضطررنا لإغلاق نوافذ السيارة؛ إذ كان الذباب يدخل علينا أفواجاً”.
وكثيراً ما تحدثت الكاتبة عن الحشرات والقاذورات، حتى أنها عندما وصفت المطبخ اليمني قالت: “هذه الغرفة هي المكان الذي يغزوه الذباب على الدوام، وكان من المألوف جداً لنا أن نجد بعض الذباب في طعامنا وأطباقنا”.
ثم تعرج على الكيفية التي يسخن بها اليمنيون الحمامات، وكيف تقوم النساء بصنع أقراص من روث الجمال أو البشر “ثم يَدُسنه حافيات الأقدام”.. إلى أن تقول: “أكثر ما كان يذهلنا هو قيام النساء بعمل أقراص الروث بأيديهن، ثم يقمن في نفس الوقت بالاعتناء بأطفالهن دون غسل أيديهن، ويمسحن وجوهم بأطراف أثوابهن، أو المقرمة”. وتستأنف: “فوجئت ذات يوم برؤية خادمنا يرفع السجاجيد، ويرش روث الخيول على أرض الغرفة قبل تنظيفها لمنع الغبار”.
وتستعرض لوسيل فيفرييه مشهداً مؤلماً من واقع ظلم الأئمة لأبناء شعبهم، فتقول: “وكما هو الحال في الحديدة، يتكفل السجناء، وأقدامهم مكبلة بالسلاسل، بمهمة تنظيف مدينة صنعاء.. وما كان يبعث على الأسى دائماً هو رؤية هؤلاء التعساء والجروح تدمي كعوب أقدامهم جراء احتكاك السلاسل بها”.
إن الأسى الذي أفصحت عنه الكاتبة – رغم أنها غريبة وغير مسلمة- لا بد أن يترجم فداحة الظلم والقهر الذي أوقعه النظام الإمامي بحق الشعب اليمني الذي انتهكت حقوقه الإنسانية بصورة وحشية، وهو أمر لا يختص بمشهد واحد، بل تقول مارسيل: “أخبرنا الأهالي أنه عندما كانت تمطر بغزارة، كان يتم رفع الضرائب في الأرياف بذريعة أن المحاصيل تزداد في المطر.. فيا لهم من قبائل مساكين”!
وفي مشهد آخر نجدها تترجم مأساة هذا الشعب من خلال وصفها للحمامات والمطابخ، وغرف النوم وغيرها، مما لا يتسع مقال لذكره.. ربما سيكفينا لتخيل تلك المعاناة أن نقرأ سطرين تتحدث فيهما الكاتبة عن المكان الذي أقاموا فيه – بوصفهم عائلة طبيب أوروبي- إذ تذكر: “عندما هممنا الاتكاء على الجدار أومأ والدي بألاّ نفعل، فثمة ثقوب في الجداران كانت مسدودة بروث الأبقار.. وإذا كانت الأبقار قد غادرت من البيت فإن البق والقمل والحشرات المتطفلة ما برحت المكان، ومن غير أن نراها بدأنا نحك جلودنا”.
لا شك أن السطور السابقة ما هي إلا لقطات صغيرة جداً بالمقارنة لكتاب يسرد كل شارد ة وواردة من يوميات شعب في زمن الجوع والمرض والظلم على يد مليك يدّعى أنه خلفية الله على الأرض، وأمير المؤمنين.
الوجـــه الآخـــر
أما الآن فلنر كيف يتقاسم (أمير المؤمنين) يحيى بن حميد الدين رغيف الخبر مع أبناء شعبه.. وأي تقوى كبحت جماح آل حميد الدين يوم صار زمام اليمن بأيديهم.
تروي لوسيل فيفريييه في مذكراتها كيف كان يتم عد أموال بيت المال، وقيمة النقد، حتى تصل إلى: “في كل مرة تمتلئ فيها غرفة بالأكياس النقدية حتى السقف يتم قفل بابها، والانتقال إلى أخرى”، ثم تقص: “عندما وجد أحد الأمراء أن والده الإمام يحيى لا يعطيه مصروفاً كافياً، قام بحفر ثقب في أرضية غرفة تقع فوق أخرى مليئة بالريالات النمساوية، وكان بواسطة صنارة يسرق المبلغ الذي يريده”.
أمير آخر يدعى سيف الإسلام؛ قاسم، كان متزوجاً بإحدى بنات (راغب بيه) وزير الخارجية، كتبت مارسيل عن زوجته (ذات الأصل التركي) قائلة: “كانت الأميرة التركية تراقب زوجها عن كثب، وحين اكتشفت أنه كان يخونها، وضبطته يطارح عشيقته الغرام في إحدى أقبية القصر، جن جنونها، وطاردته في الممرات، وهي تتوعد بأن تضربه.. بالحذاء.. ولم ينج منها إلا بالاختباء بالحمام”. وتعلق: “الإمام يحيى عاقب ولده بحرمانه من التنقل على الخيل، لأنه كان يحب زوجة ابنه كثيراً”.
وتروي أيضاً: “لدى الأسرة الملكية حظيرة للحيوانات النادرة، وفي حديقة الإمام يحيى أسود، وكذلك عدد من المها”، وتضيف: “في عام 1947م كانت الأسرة الملكية وحدها من يمتلك بعض السيارات”.
وبعد أن وصفت حياة نساء الريف اللائي يتناوبن على ثوب واحد، تحدثت مارسيل عن زيارتها لحريم الأسرة الملكية قائلة: “عند وصولنا كن جالسات على وسائد مرتبة حول الغرفة، وكانت النساء كبيرات السن يدخنَّ المداعة، ويبصقن بانتظام في متافل نحاسية مزخرفة بدقة، أما الأصغر سناً فكن يقضمن اللوز والسمسم، والذرة، وبذور القرع المحمص، إضافة إلى بعض الحلوى.. كن سعيدات جداً، ويضحكن من كل شيء ومن لا شيء، مثل نزيلات المقاهي الأوروبيات”. وتضيف: “عرضنا عليهن سجائر، فقبلن وأشعلنها بسعادة غامرة
سـُرّاق الشعوب.. أئمــة سيف الإسلام القاسم
على مدى فصلين (العاشر والحادي عشر) ترجمت مارسيل فيفرييه الهوية الحقيقية لنظام الإمامة في اليمن، من خلال استعراضها الدقيق للأحداث التي أعقبت اغتيال الإمام يحيى في 17 فبراير 1948م، فقد تابعت الأحداث بالساعات والدقائق حتى تصل بنا إلى مساء السبت 13 مارس 1948م، الذي نجح فيه الإمام أحمد بن يحيى وجنوده من اقتحام صنعاء.
تروي مارسيل: “في الساعة التاسعة من صباح الأحد بدأ رجال القبائل من جيش الإمام بنهب صنعاء مستخدمين الفؤوس في تحطيم الأبواب”، ثم تقول: “منزل السيد أحمد المطاع الواقع أمام منزلنا، نهب: وسائده، سجاده، أطباقه، أبوابه، النوافذ، ولم يبق فيه شيء سوى الجدران”.
وتصف حال الناس في ظل البطش الانتقامي: “رأينا نساءً، وأطفالا يخرجون مرعوبين، فتحنا لهم الباب وآويناهم”، وتضيف: “أتذكر رعب النساء المسكينات والأطفال، حين كان السُرّاق الذين أدخلهم ولي العهد ينزعون عنهن سلاسلهن المعلقة في صدورهن، وكادوا يجرحونهن.. أنهم بربريون حقيقيون”. وتستأنف: “رغم أن الإمام أحمد وعد بعدم نهب قاع اليهود، وبير العزب، والأوربيون فيه، إلا أن جميع هذه الأماكن نُهبت، وتم قتل كل من حاول الدفاع عن بيته أو نسائه أو يمنع أعمال النهب.. حتى امتلأت الطرق، والمزارع، والسطوح بجثث القتلى، وكان بينهم كثير من النساء”.
ثم تسرد الكاتبة قصصاً مختلفة للأعمال الوحشية (البربرية) التي كما تقول: “أطلق الإمام أحمد والسادة المتنفذين أيدي رجالهم للقيام بها دون رأفة بصغير أو كبير، ولا برجل أو امرأة.. حتى أصبح أهالي صنعاء في غضون أسبوع لا يمتلكون كسرة الخبز التي يُسكتون بها بكاء أطفالهم الجوعى..”.
وهكذا آلت مقاليد حكم اليمن إلى أيدي من لا يخفون إلاً ولا ذمة في شعوبهم.. وأعلن أحمد بن يحيى حميد الدين نفسه إماماً على اليمن، ولقب نفسه بـ(سيف الإسلام)، يحفه مئات اللصوص القتلة، ممن آلت إليهم الأمور.
* مقتطفات من كتاب (أحداث عشتها في اليمن)- تأليف: لوسيل فيفرييه… ترجمة خالد طه الخالد