مؤامرة قتل صالح
يواصل الرئيس الأسبق علي ناصر محمد لـ(عدن الغد) كشف الأسرار التي كان يحتفظ بها فترة طويلة، حول حادثة مقتل الرئيسيين الحمدي والغشمي، وفي هذه العدد يحكي لنا عن احداث وقعت بعد مقتل الرئيس الغشمي وهذا مقاله في حديثه:"في صباح يوم اغتيال الغشمي، اتصل بي صالح مصلح بعد أن علم بأن الحاج تفاريش فجر نفسه والغشمي ومبنى القيادة عبر مراقبته الاتصالات اللاسلكية "يزفّ" لي الخبر، قائلاً: "مبروك... أحمد قتل". وبعدها بدقائق اتصل بي وزير أمن الدولة محمد سعيد عبد الله "محسن"، مكرراً العبارة نفسها، وقد كان ردّي عنيفاً على الاثنين، كما سبق أن ذكرت.
والمثير أنّ وزير داخليتنا جاء يخبرني بأنّ قائد لواء تعز، الرائد علي عبد الله صالح، سيتوجه من تعز إلى صنعاء ، وأنه لا بد من قتله في الجو قبل أن يصل إلى العاصمة، وإلّا...
- وإلّا فماذا؟.
- إنّ خطتنا كلها ستخيب ما لم يجرِ التخلص منه على الفور. إنّ علي عبد الله صالح هذا، أذكى وأخطر رجل في اليمن. وهو من شارك في قتل الحمدي، وعميل للمخابرات الأميركية منذ عام 1975م.
وكان صديقه علي محسن الأحمر، أو كما يقال، الأخ الذي لم تلده أمه، قد سيطر على الموقف العسكري وعلى صنعاء بدلاً من قائد قوات العمالقة محمد الشريف، حتى وصول المقدم علي عبد الله صالح الذي حكم صنعاء وامتدّ حكمه أكثر من ثلاثين عاماً قبل الوحدة، وبعدها بالدولة العميقة بعد ثورة الشباب السلمية عام 2011. هذه الوقائع التي أوردها بإيجاز، إنما تدل على المدى الذي بلغه الاقتناع والثقة بجدوى هذا النهج في التعاطي مع قضية كبرى كالوحدة التي تتعدد أطرافها وتتشابك مصالحها في قيامها من عدمه، داخليةً وخارجيةً. لقد دافع صالح مصلح بحدة عن خطته وعن النتائج المتحققة. وبينما كان المكتب السياسي يتّجه لمحاسبة سالمين، كان هو ينفي علم سالمين بما حدث، معتبراً نفسه المسؤول الوحيد، وأنه اتخذ قراره بمفرده، وأنه يتحمل مسؤوليته ونتائجه. كان شجاعاً حقاً في موقفه مما حدث في صنعاء، ومبدئياً في التعاطي مع قضية الوحدة، ولكن بطريقته، وكان إيمانه بهذه القضية لا حدود له، ولو قدّم في سبيلها ابنه لحسون، بل نفسه. وهذه شهادة للتاريخ بصرف النظر عن التباين في وجهات النظر معه. لقد كان نهجه ميكيافيلياً صرفاً، وكانت الغاية عنده تبرر الوسيلة.
سالمين لم يدافع عن نفسه
ويقول الرئيس ناصر في حديثه :" لم يستطع سالم ربيع علي الدفاع عن نفسه في تلك الجلسة (جلسة المكتب السياسي)، ولا في الطريق إلى مبنى اللجنة المركزية عندما كان في سيارتي، وكان معنا محمد صالح مطيع، وزير الخارجية. وفي ذلك اليوم "الماراثوني" خابت جميع المحاولات التي بذلتُها وبذلها آخرون لإنقاذه من تحمّل مسؤولية هذا النوع من المشاريع المدمرة لليمن وشعب اليمن. حتى إني اقترحت عليه أن أتحمل أنا وصالح مصلح مسؤولية ما حدث، وإعلان ذلك رسمياً، وتشكيل لجنة للتحقيق معنا في الحادث، تجنباً للدخول أولاً في الحرب مع الشمال، وثانياً تجنباً لمحاسبة الرئيس، لأن ذلك سيؤدي إلى صراع دموي، علّنا ننقذ ما يمكن إنقاذه. وبعد رفض "سالمين" لفكرة إنقاذه، إذا به يرفض تحمّلي للمسؤولية.
بعد ذلك انتقل سالمين لمقابلة عبد الفتاح إسماعيل في منزله في معاشيق، الذي رفض لقاءه إلّا بعد حضوري من مكتبي في التواهي. وبعد أن حضرتُ جاء عبد الفتاح إسماعيل والتحق بنا، وسألتهما عن الحل ولمّا يبقَ سوى ساعات على اجتماع اللجنة المركزية، فلم أجد لديهما جواباً. لم يُعطِ عبد الفتاح أيّ رأي في الموضوع، وعندها كررت من جديد مقترحي الذي عرضته على الرئيس سالمين، أن أتحمل أنا ووزير الداخلية صالح مصلح المسؤولية عن هذه العملية، لا الرئيس ربيع، وتشكيل لجنة لمحاسبتنا وتشكيل حكومة جديدة كمخرج من الأزمة، كان ردّ عبد الفتاح سلبياً، وانصرف الرئيس سالم ربيع علي، وزاد الوضع تأزماً. وفي المساء وافق سالمين في لقائه مع علي عنتر ومحمد صالح مطيع وصالح مصلح قاسم على تقديم استقالته والذهاب إلى إثيوبيا، وكان أول المتحدثين صالح مصلح الذي طلب من "سالمين" أن يستقيل وأن يتحمل المسؤولية وحده، نزولاً عند رغبة أغلبية المكتب السياسي واللجنة المركزية، وهنا سأل "سالمين" مصلح: "من أين نزلت عليك هذه "الديمقراطية" الليلة يا صالح، وأنا وأنت دبرنا "هذه العملية" من وراء ظهر القيادة؟". لم تكن "حقيبة تفاريش" قد انفجرت بالرئيس الغشمي وحده، بل فجّرت الوضع في الجنوب، وأجهزت على "سالمين" أيضاً. وافقت اللجنة المركزية والمكتب السياسي على هذا المقترح، وقرأت الاستقالة على اللجنة المركزية التي قبلتها، وكلفتني رئاسةَ الدولة، إضافة إلى رئاسة الوزراء، وبينما كان الرئيس "سالمين" يُعدّ نفسه للرحيل، فجّر مؤيدوه الموقف العسكري، معارضين استقالته وسفره إلى خارج البلاد، بينما كان يوجد في منزلي أعضاء المكتب السياسي الذين واصلوا الاجتماع لاستكمال الإجراءات المتعلقة بسفر ربيع وتوديعه. وفجأة، بدأت بعض القذائف المدفعية تسقط على منزلي الكائن في مجلس الوزراء بمواجهة دار الرئاسة، ويبدو أنّ ذلك كان رداً على قبولي تحمّل رئاسة الدولة خلفاً لسالمين، وكان من الصعب السيطرة على الصراع العسكري بين حراسة الرئيس ربيع ومؤيديه، وبين القوات الموالية لنا، واستمرت المعركة لأكثر من 12 ساعة بكافة أنواع الأسلحة، ولكن نفاد الذخيرة والماء والمواد الغذائية عند القوات الموالية للرئيس ربيع كانت من أسباب استسلامه هو ومن معه من القيادات، كجاعم صالح وعلي سالم لعور، فسلّموا أنفسهم لوزير الدفاع علي عنتر الذي كُلِّف تسلُّمهم، وجرت محاكمتهم وإعدامهم.
علي ناصر وشعرة معاوية
وزاد في حديثه وقال :" ما أودّ قوله، هنا، أنني حاولت حتى اللحظة الأخيرة، وفي خضمّ المواجهة الدموية التي كانت مؤشراتها قد بدأت في عدن، أن أُبقي على "شعرة معاوية" مع صنعاء، فلا تتعزز قطيعة مخيفة، ولا تنشب حرب أخرى لا يعرف مآلاتها إلا الله وحده. وهكذا، فقد بادرتُ إلى الاتصال بالقاضي عبد الكريم العرشي (الرئيس بالنيابة)، فكان عليّ أن أحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه في ذلك الوقت الحرج وفتح صفحة جديدة. كانت خطوط الاتصال مقطوعة بين صنعاء وعدن، فاتصلتُ به عبر البحرين. رفض الرئيس عبد الكريم العرشي الحديث معي. وتصنِّف بعض القوى في صنعاء القاضي العرشي بأنه كان من صقور المحافظين ومن أعداء القوى الجديدة ومن جيل القاضي عبد الله الحجري وعقليته الذين خدموا في عهد الإمام أحمد. ومما يُروى عنه أنه رفض بشدة مقترَحاً للصلح مع الجبهة الوطنية الديمقراطية، حقناً للدماء وتوفيراً لخسائر لا طاقة للاقتصاد بها، لأنها ــ بحسب صاحب المقترح ــ ستذوب كما ذاب الملكيون الذين كنا نخشاهم قبل المصالحة معهم عام 1970، وكان تبرير العرشي أنّ الجبهة أكثر خطورة من الملكيين. كان شبح المقاطعة العربية لليمن الديمقراطية مخيّماً في الأفق. لقد ساعدت التطورات "الجنونية - الجنوبية" الداخلية في التعجيل بإيصال النظامين إلى حافة الصدام، وزادت في تشديد لهجة القيادة في صنعاء وتصريح الرئيس علي عبد الله صالح ــ الذي تولى الرئاسة بعد مقتل الغشمي ــ في خطابه بجلسة قسَم اليمين الدستورية بأنّ "القوات المسلحة ستضرب بكل قوة وقسوة كل من يريد المساس بأمننا وسيادتنا واستقرارنا، مهما كانت رداءة السلطة الحاكمة للشعب اليمني في الشطر الجنوبي من الوطن". ودعت حكومة صنعاء إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الجامعة العربية لبحث الموضوع (تموز/ يوليو 1978م)، وقد اتخذ المجتمعون قرارات ضدنا شملت: تجميد العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الدول العربية واليمن الديمقراطية، وقطع المساعدات الاقتصادية، ووقف التبادل الثقافي والفني الذي لم يكن يُذكَر. وعُدَّت هذه القرارات حلاً وسطاً بين الموقف السعودي الداعي إلى "فصل اليمن الجنوبية من الجامعة العربية لأنها انتهكت ميثاقها"، والموقف الكويتي الذي دعا إلى تجميد هذه العلاقات، نظراً لأنّ "فصل اليمن الجنوبية سيؤدي إلى الارتماء أكثر في أحضان الاتحاد السوفياتي". وكانت هذه القرارات من أقسى ما صدر بحق دولة عضو في الجامعة العربية منذ تأسيسها في عام 1945م. الجامعة العربية نفسها عجزت في آب/ أغسطس عام 1990م عن اتخاذ أيّ موقف مماثل ضد العراق عند احتلاله للكويت، لكنها اتخذت عام 2010 موقفاً أقسى وغير مبرر وغير عروبي بحق سورية، إحدى الدول المؤسسة للجامعة.
مشادة كلامية بين الاصنج والتركي الليبي
واسترسل الرئيس ناصر في حديثه قائلا:" استمرت هذه المقاطعة إلى شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من ذلك العام (1978م)، حيث عُقدت القمة العربية في بغداد. وقد حضر القاضي عبد الكريم العرشي الاجتماع، ممثلاً الرئيس علي عبد الله صالح. حاولتُ في بغداد أن أجري اتصالاً معه، لكنه رفض. ونجحتُ بعد جهود حثيثة في إقناع المؤتمر بإلغاء القرار المتخذ بحق اليمن الديمقراطية. وعملتُ على توسيط المملكة العربية السعودية والعراق مع سلطات النظام في صنعاء. وقد عُقد على هامش مؤتمر القمة العربي في بغداد اجتماع مشترك حضره وليّ عهد السعودية، رجلها القوي الأمير فهد بن عبد العزيز، وصدام حسين، وكان الاتفاق على استئناف العلاقات بين اليمن الديمقراطية والسعودية. وكانت قد حصلت مشادة أثناء إحدى الجلسات، بين وزير خارجية الشمال عبد الله الأصنج، والمندوب الليبي علي عبد السلام التريكي، وقد شتم التريكي الأصنج واتهمه بأنه "عميل ومشبوه، وكان من المفروض أن يقتل مع الغشمي". في تلك اللحظة، ورغم كل ما هو حاصل من خلاف سياسي بيننا، قلت للدكتور علي التريكي: "لا داعي لمثل هذا الكلام، نحن اليمنيّين سنحلّ مشاكلنا بأنفسنا"، وأعفيتُ الأصنج من الرد والدخول في مهاترات. واللافت أنّ موقفي هذا لم يقابَل بأية إيجابية من جانب العرشي، رئيس وفد صنعاء. ويبدو أنه كان ثمة قرار في "الاتجاه المعاكس"، وليس الأمر في يد القاضي العرشي، ولا الوزير الأصنج. وكان موقف العرشي هو الاحتجاج على قرار إلغاء العقوبات المفروضة بحق النظام في عدن.
(للحديث بقية)