إنْ كانت الدراما التلفزيونية أعظم نتاجات الفنّ السوريّ، فالقصة القصيرة أعظم نتاجات الأدب السوريّ. بخلاف الرواية التي تُشبه جزراً متباعدة من الروائيّين النادرين الذين لا يربطهم رابط، وبخلاف الشعر الذي اتّسم مساره بانفجارات حادّة تلد أسماء كثيرة مهمّة قبل أن ينحسر فجأة وكأنّه لم يكن، ليعاود انفجاره في زمن آخر وقافلة أخرى من الشعراء، حافظت القصة القصيرة على منحنى بيانيّ هادئ عموماً.
بدأت القصة ناضجة وواصلت نضجها بدأب واثق، مثل نهر لا يشهد إلّا فيضانات صغيرة تنتج أسماء بعينها، قبل أن يعاود النهر مجراه الهادئ المُدجَّج بتيارات قصصيّة متلاحقة لا تكاد تغيب عن الساحة أبداً. وحتى تلك الفيضانات ما كانت تتمرّد على مسار القصة الدؤوب إلا من ناحية الشكل، فالقصة القصيرة السورية برمّتها تشيخوفية الهوى، حتّى حينما يبدو للقارئ المتعجّل أنها تمرّدت على الأب الروسيّ البعيد: تشيخوف زكريا تامر هو تشيخوفنا نفسه، ولكنّه في رحلة في بلاد العجائب، أما تشيخوف حيدر حيدر فهو تشيخوفنا وقد مسّته نيران الثورات، أو كأنّه ترك روسيا وبات في الأهوار أو أدغال أميركا الجنوبية.
هو تشيخوف ذاته، أكان عند سعيد حورانية، أو إبراهيم صموئيل، أو جميل حتمل، أو عبد الله عبد، أو نور دكرلي. الفارق بين تشيخوف وآخر هو الفارق بين تجارب الكتّاب، وبين رؤية كلٍّ منهم لـ "الحياة غير المعيشة" التي ما كان تشيخوف سيشعر بوحشة أو غرابة لو نُفي من روسيا القيصرية إلى سورية القرن العشرين.
إذن، لا تبتعد مجموعة نور دكرلي القصصية "نظرة أخيرة على أشجار الكرز" الصادرة عن "منشورات مرفأ" من ذلك العالم التشيخوفيّ السوريّ، بل تنهل منه بقدر ما تهبه. التقط دكرلي جوهر العالم القصصيّ السوريّ بتجاربه المتنوعة، وأسقط عنه كلّ ما علق من غبار الآخرين، وكلّ المتاع الزائد الذي كان يسم عقداً بعينه أو تجربة بعينها، ووهبها تجربته الشخصية التي تبدو قريبة من عالم إبراهيم صموئيل وجميل حتمل، بقدر ما هي قريبة من مسحوقي سعيد حورانية، وبقدر ما هي بعيدة منهم كلّهم ولا تشبه إلا صاحبها.
أسلوب واضح بسيط يكاد يقطع مع أكبر روافد القصة السورية...
يكتب دكرلي نفسه، وأحلامه، وكوابيسه، ورؤاه، وأفكاره، وخيباته من دون أن يحيّد الكاتب، ولكنّه في الوقت ذاته حيّد الراوي بحيث يكون لكلّ قصة راويها الذي لا يمكن لصوته أن يختلط بأصوات الآخرين برغم أنه منهم، وتكاد تجربته تشبه تجاربهم، فهو اللاجئ أبداً في الوطن وفي المنفى، والمكسور أبداً في وحدته وفي زحامه، والهشّ أبداً في صحوه وفي نومه وفي هذيانه.
ليست قصص "نظرة أخيرة على أشجار الكرز" قصص مكان بالرغم من تشبّعها بعبق الأمكنة المختلفة في الوطن وفي المنفى، بل هي قصص شخصيات، وقصص علاقة تلك الشخصيات بالمكان وبالزمان. تأخذ الشخصيات من المكان أشياءه وتطرح ما تبقّى، تأخذ السماء والأشجار والهواء والأرصفة وتترك العمارات والأزقة. لا نكاد نلمح عمارة أو بناء في أيّ قصة من القصص، بل يبدو وكأنّ المكان وهبَ عماراته لشخصياته كي تُشيّد كلٌّ منها مكانها في داخلها؛ أمكنة جوانية قد تشبه المكان الخارجي وقد تختلف عنه، غير أنها مغموسة فيه وبكل تفاصيله الصغيرة التي تحوّل شخصيات الورق إلى شخصيات ناطقة حية تلتصق بنا بقدر ما تنفر منا، وتماثلنا بقدر ما تناقضنا. كلّ شخصية من شخصيات القصص هي الكل وهي لا أحد، إذ تحمل كلٌّ منها ندوب المسافات والارتحالات والخيبات، ولعنة المكان والزمان.
احتفاء بالهشاشة التي شكّلت جوهر سوريّتنا وجوهر قصصنا...
وكذلك فهي ليست قصص زمان بالمعنى الحرفيّ للكلمة، إذ بقدر ما كانت القصص مشغولة بتوثيق سنوات الجمر التي تقارب عقداً ونصف العقد منذ قبيل الانتفاضة وصولاً إلى المنافي، لكنها ما كانت ستبدو ناتئة لو نُشرت في الألفينيات أو حتّى في التسعينيات. وكأنّ الزمن السوريّ السرمديّ ألقى بظلال رتابته الخانقة على القصص، فهي عن زمننا اليوم وهي عن العقود السابقة أيضاً. فالثابت نفسه لم يتغيّر: السُّلطة ذاتها، والقهر ذاته، والأمكنة والأزمنة ذاتها التي تكره وجودنا فيها، وكذلك فالهموم ذاتها، والانكسارات ذاتها. الفارق هنا هو أنّ قصص دكرلي (وقصص رباب هلال وليندا حسين مثلاً) لا تكتفي بالتأريخ والتوثيق بكونهما "واجبين" على الأدب، بل تحاول إعادة خلق المكان والزمان والناس قبل طوفان الخيبات الذي جرف كل شيء.
ينبش دكرلي تلك الأبنية الجوانية لدى شخصيّاته كي يعيد تشييد الماضي بأمكنته وناسه؛ الماضي الذي لم يبق منه شيء فعلياً بخلاف ما تبقّى من ذكريات لدى جيلنا الذي ربما كان آخر جيل عاش في سورية الأمس وسورية اليوم، وشهد المعنى المزدوج للوطن والمنفى قبل أن ينفصلا في سنوات الانتفاضة والحرب. ولذا لا غرابة أنّ الحميمية تبدو أكبر في القصص البعيدة، في قصص فرنسا، حيث نرى سورية أوضح، وأجمل، وأقسى، وأقرب، بينما هي تبدو ظلّاً بعيداً في "القصص السورية"، وكأنّ لعنة المكان انقلبت بين الواقع والمتخيَّل بحيث ما عاد يمكن لنا استعادة "الوطن" إلا حين نوغل أكثر فأكثر في المنفى، وحين ننسف صور حاضر الدّمار لنعيد خلق عمارات الماضي وتشييدها داخلنا قبل أن نعيد تشييدها أدبياً وواقعاً.
يلتقط دكرلي ببراعة جوهر مسيرة القصة القصيرة السورية طوال عقود حين بدأت وبقيت في موقع الضدّ من السُّلطات على اختلافها، سياسية ودينية واجتماعية. ما من كاتب قصة جيد تخلّى عن مكانه في نبذ السُّلطة، بخلاف عدد من الروائيين والشعراء والمسرحيين الذين فضّلوا القرب من السُّلطة. وتكمن براعة دكرلي أكثر في كونه ترك تلك الضدية جوانية كما هي العمارات والأمكنة. لا صراخ ولا زعيق ولا لطم في القصص، بل احتفاء بالهشاشة التي شكّلت جوهر سوريّتنا وجوهر قصصنا في الواقع والمتخيَّل، واحتفاء بأسلوب واضح بسيط يكاد يقطع مع أكبر روافد القصة السورية التي كان لمعظم كتّابها سرد يقارب الشعرية، ولعب لغويّ مغوٍ. لعلّه بالغ أحياناً في التبسيط غير أنّ القصص صانت قوّتها لأنّها أدركت جوهرها: إعادة خلق الحياة غير المعيشة، واحتفاء بالهشاشة التي شكّلت نقطة قوتنا وضعفنا في آن.