آخر تحديث :الأحد-13 أكتوبر 2024-10:10م
ملفات وتحقيقات

ذكريات وإجحاف وظلم

الخميس - 26 سبتمبر 2024 - 08:20 ص بتوقيت عدن
ذكريات وإجحاف وظلم
خاص

صبيحة الأربعاء الخامس والعشرين من سبتمبر وبعد صلاة الفجر ، وكعادتنا كل صباح نلتقي أنا ومجموعة زملاء ومنهم الأخوين الغاليين د. محمد الخاشعة مدير مركز الكود للأبحاث الزراعية والحبيب أبو هلال.
وفي هذا الصباح جمعتنا الصدفة برجل من العسكريين القدامى الذين عركتهم الحياة وعرفتهم الصحاري والجبال والقفار، وممن بنوا وطناً بدموع أعينهم فصاروا مرميين لا يُعبأ بهم ولايُلتفت إليهم وهم كثر، منهم من ضمتهم القبور، ومنهم من التزموا بيوتهم - إن وُجدت لهم بيوت - ومنهم من أعيتهم الحيلة فتكالبت عليه ظروفه وظروف أسرته وظروف جراحه التي لم تشفع له، حيث كانوا لايهمون إلا وطنهم في زمن تشربوا فيه حليب الإخلاص والوطنية فقدموا حياتهم ودماءَهم ، لكنهم الآن يقتاتون الأسى والقهر والغبن والنكران.

هذا الشيخ الشائب الذي يعيش في نهاية السبعينات من عمره
أو أكثر من ذلك بحسب التقدير، هو أحمد زاقر علي السرع الكازمي، عسكري عتيد من الزمن الجميل عاش مع قحطان الشعبي وفيصل عبد اللطيف وسالمين والأصنج وباسندوة وعلي ناصر وعبده الفتاح ، وكل قادة دولة الجنوب، معسكرات الجيس الجنوبي سابقا، وتعرفه كل الصحاري والجبال والهضاب، يوم كان للعسكرة صولة وجولة.
تعرض للجراح أكثر من مرة ويسير الآن على عكازين، كون ساقه مبتورة نتيجة إصابته بلغم، فهل لكم أن تتفكروا معي كم يتقاضى هذا الرجل من معاش شهري؟ !

حكى لنا بمرارة أنه لايتقاضى إلا 25 ألفا، فيتذكر أنه كان ضمن دفعة من العسكريين الذين ذهبوا للتدريب في مصر بعد عام 67م وأن الزعيم جمال عبد الناصر تفقدهم وربت على كتفه بيده، ومسح على شعر رأسه في المعادي قبل نكسة حزيران 1967م بعشرة أيام.
حكى لنا كثيرا عن الحكومة التي شكلها قحطان الشعبي وتكونت من 13 وزير، وحكى لنا عن الألوية التي تشكلت أنذاك بعد الاستقلال ومنها:

اللواء السادس وكانت قيادته في بدر، ولواء 14 أكتوبر في الضالع، ولواء 20 في عتق بقيادة الميسري، ولواء 30 نوفمبر في حضرموت.

حكى لنا عن سالمين، وكان كلما ذكر لنا سالمين ترقرقت العبرات في عينيه مرددا بقوله:( سالمين كان مابه سخى للقتل) .
وحكى لنا كيف كان يشفع لبعض السجناء لديه من الذين لايعلم سالمين بسجنهم، وحكى عن إخلاص سالمين وبساطته وتواضعه، وكيف كان يتفقد المعسكرات وعلى رأسه غترته (الكشيدة) وبالشميز والفوطة ويحمل سلاحه الشخصي، وذكر لنا مواقفا طريفة لعلاقته بسالمين، حيث أتى سالمين لزيارتهم في الديس في حضرموت، وكان هذا الكازمي قائدا للقوة أو لجزء منها فتفاجأ بزيارة سالمين الذي كان له سائقا يدعى ( بحفور) وهو صديق لهذا الكازمي، فجمع القوة على عجلة وإحراج وأدى التحية للرئيس، ثم شرع بعد ذلك وهم بالخروج ليحضر جلبة ( ذبيحة) عزومة للرئيس ففهم سالمين ذلك وناداه بالعودة وأبى الرئيس سالمين إلا أن يتناول الغداء مما يأكله الجنود كل يوم.

أحمد زاقر علي السرع الكازمي أنموذجا للمئات ، بل ربما لآلاف من المغبونين الذين لايستطيعون شراء قطمة دقيق بما تمنحهم إياه الدولة الآن ، وقد حملوا الوطن في المراحل العصيبة فوصلوا آلآن لمرحلة الإنهاك ، بعد أن قدموا ضريبة الحب لهذا الوطن من هذه الأجساد، وما الساق المبتورة لهذا الكازمي إلا نموذج بسيط لآلآف المغبونين، في زمن يتقاضى فيه لصوص بالعملة الصعبة ويعيشون في قصور فارهة.

مثل هؤلاء هم من يكتبون التاريخ ويسردون الأحداث ، وهم مرجعية للأجيال.

استميحكم عذرا في الإطالة، فهي صدفة كان لابد أن توثق، لعل وزير الدفاع أو الرئيس أو غيره يعيد الاعتبار لأمثال هذا الجيل، ولمثل هذا الرجل الذي لقيناه صدفة وهو ذاهب إلى لجنة التظلمات في القاعدة الإدارية في خورمكسر لعله يتلاحق فتاتا من وطن منهوب منخور ميؤوسة عافيته.

د. علي غالب الصبيحي.
عدن 25 /سبتمبر/ 2024م.