آخر تحديث :الأربعاء-15 مايو 2024-12:04ص

أدب وثقافة


أنين تحت الركام(قصة)

الأحد - 28 أبريل 2024 - 11:08 م بتوقيت عدن

 أنين تحت الركام(قصة)

كلمات/ الدكتور الخضر حنشل

تلبدت السماء بسحابة كثيفة من البارود، وأخذ أزيز الرصاص يلعلع في ربوع القرية.. كانت صرخاتهم وعويلهم تطاول عنان السماء الكل يرحل في التيه.. دخان البارود يملأ الأفق ويحجب ضوء القمر.. كانوا يهرعون نحو المجهول لم يكن هروبهم من عاصفة رعدية ممطرة بل كان فراراً من الموت إلى أي مكان، وبأي ثمن لم يكن يدر في خلدهم ما خباء الزمن لهم من بلاء، ومحنة فقد كانت قريتهم قبل ذلك آمنة مطمئنة لا يعكر صفو ودادها معكر فالأهالي فيها يمارسون برنامجهم اليومي في هدوء وسكينة فيهرعون كل صباح مع مواشيهم إلى الحقول.. وعند حلول المساء يتسامرون ويقضون سويعات الليل في مرح وحبور لا يملكون من حطام الدنيا غير القليل من المال؛ ولكن سعادتهم لا يضارعها نعيم أهل القصور والأموال، والدثور.
وجد سابر نفسه في موجة عاتية من العواصف الرملية فأخذ يصارع رمال الصحراء هو وأسرته المكونة من زوجة مسنة ،وثلاث حفيدات قاصرات.. كلما سار قليلاً ألتفت نحو القرية فإذا بألسنة اللهب تلتهمها شيئاً فشيئاً.. مضوا في طريقهم في ليل معتم دامس، وكلما ابتعدوا عن القرية خفتت أصوات الرصاص وبدت القرية بعيدة لم يوافيهم بخبرها سوى ذلك الشعاع الذي يشبه وميض البرق.
لقد تركوا كل شي منزلهم الرؤوم، وماشيتهم، وملابسهم، ونفقاتهم، وجيرانهم، وذكريات عمرهم التي لا تقدر بثمن مضوا شاردين في جوف الصحراء فارين بجلودهم، ولسان حالهم يقول: جحيم الصحراء ولا نار الحرب التي أحرقت قريتنا وكادت تبطش بنا.. سنمضي بعيداً عن لهيب المعارك، وأزيز الرصاص المجنون، وكلما طال بهم المسير توارت القرية وانقطع نبؤها، وبقيت الصيحات الجامعة تصك مسامعهم،
وفي الطريق تلقفتهم بعض أيادي المحسنين فتزودا بما تيسر من النفقات، ومضوا نحو المجهول كانوا لا يعرفون للطريق بوصلة ولا مرشد توقفوا عندما أجبرهم الظلام على الكف عن السير أخذ العم سابر رب الأسرة الذي تجاوز الثمانين من عمره يلتمس مكاناً للإيواء؛ ولكن دون جدوى فقرر المكوث هو وأسرته في أطراف المدينة الساحلية مضوا ليلتهم في العراء يتضورون جوعاً تغظ مضاجعهم أصوات الكلاب الضالة، وتلسعهم الحشرات..
مر النهار كله وهو يلف الحواري بحثاً عن مأوى لعائلته المنهكة أخبروه سماسرة البيوت أن أقل منزل إيجاره مائة ألف.. كانت شفتاه لا تجيب وأرجله تتحرك ببطء شديد من شدة المرض المزمن الذي يعاني منه، ومن الجوع والسفر والإرهاق ومع ذلك فلم يستطع العودة إليهم دون أن يأتي ولو بأقل القليل لإغاثتهم من الهلاك وكان عليه أن ينتظر أمام المطعم حتى يأكل الزبائن فيجمع الفتات من بقايا الطعام الذي يتركه الآكلون.. أخذ يجر جسده المنهك رويداً رويداً صوب عائلته القابعة في أطراف المدينة فوجدهم محشورين في جذع شجرة كأنهم صيصان ينتظرون مطعمهم فناولهم ما جمعه من الطعام فتجمعوا ومضوا تحت ضوء القمر يتبادلون الحديث عن ما حل بقريتهم المسالمة ويسألون أنفسهم عن الأهالي، والجيران والأصدقاء، وأخذت الأم تقول في حسرة والدموع تنهمر من عيونها: ولدي صالح لا أعلم ماحل به منذ أن أخذوه عنوة للتجنيد في الجيش، وأخذ القلق يستبد بها، وسرت إلى مخيلتها مخاوف وأوهام وصفت لها صنوفاً من المحن والفواجع، فهي حيناً ترى ابنها الذي اختطفته الحرب يروح ضحية مقذوف طائش، وحيناً تظنه صريع المرض أو الجوع، ظلت صورة ولدها الوحيد لا تبارح خيالها، والحزن لا يفارق قلبها، وكان الأب ساهماً شريد الفكر، يبدو عليه الضجر وتعلو وجهه الكآبة، وقلة الحيلة لا يدري ماذا يعمل إزاء هذه النوائب والرزايا التي حلت بهم في غفلة من الزمن.
التفت نحو زوجته وأطلق تنهيدة عميقة، وقال بصوت حزين منكسر: هذه المدينة لا ترحم كل شيء فيها باهض الثمن عدا الإنسان فلا قيمة له، وأردف يقول في ندم وحسرة: ليتنا بقينا هناك ومتنا تحت ركام منازلنا كبقية الأهالي الذين ماتوا تحت ركام منازل القرية.. قاطعته زوجته بهية قائلة: أبشر بخير الفرج قادم لقد صادفت اليوم إحدى النساء الفضليات ورأت حالنا فرق قلبها، ووعدتني بمساعدتنا وإيجاد سكن للإيواء.
-سكن هل فعلا قالت لك كذلك.
-نعم لقد قالت إن لديها جراج مهجور ومن الممكن أن تمنحنا إياه للسكن فيه مؤقتاً ريثما يفرج الله كربتنا.
-متى موعدكم.
-غدا بإذن الله.
لم يصدق سابر ما سمعه من زوجته فقد أصابه اليأس في هذه المدينة التي لاسكن فيها إلا بتكاليف باهظة لا يقدر عليها، ولكنه أخيراً تنفس الصعداء فقد وجد مأوى، وملجأ يجمع شتاتهم من التيه الذي كانوا فيه.. وجدوا أنفسهم محشورين في ذلك الجراج المهترئ ومع أنه خالي من مقومات الحياة المدنية -فلا ماء ولا كهرباء - إلا أنهم حمدوا الله كثيراً ؛لأنه سيوفر لهم الحماية من عبث الشارع، ولهو الكلاب، ونعيق الغربان.. بدأ سابر يفكر ملياً في شد الأزر والبحث عن عمل لتوفير لقمة بسيطة لأفراد عائلته ظل طوال ساعات الليل يفكر ويمعن التفكير في كيفية الحصول على عمل يقتات منه وأفراد أسرته.
أمضى نهاره متنقلاً بين الشوارع والأزقة والمحلات بحثاً عن عمل ما، وكلما شعر بتنميل قدميه جلس للاسترخاء برهة.. كان يخطو مترنحاً وقد بدأ الإعياء بادياً على جسده المنهك ولم يظفر في نهاية النهار سوى بزاد قليل بالكاد يكفي لسد رمق الكتل البشرية التي تنتظره ببطون خاوية..
في الصباح الباكر حاول بكل قواه أن ينهض من مرقده للذهاب إلى السوق للبحث مجدداً عن عمل ما؛ ولكن خارت قواه هذه المرة، وسقط العجز على قدميه فلم تقويان على حمله كلما نهض وقع على الأرض يبدو أن سنين عمره قد استنفدت ما لدية من طاقة،وقد تعطلت الحركة في قدميه، وعلى مقربة منه كانت ترقبه الزوجة المسكينة ،وقد امتلأت عيونها بالدموع الصامتة ..تعلقت عيناه بالسقف ومضى يستعيد ذكريات كامنة في مخيلته، وأطلق تنهيدة طاولت عنان السماء.
كانت مريم أكبر أخواتها ومع ذلك لم تتجاوز العاشرة من عمرها فقدت والدتها في أثناء ولادتها المتعسرة بأختها الصغيرة التي لا يتجاوز عمرها الست سنوات، وتكلف جدها وجدتها بتربيتهم والانفاق عليهم.. حملقت في جدها كثيراً ونظرت نحو جدتها فهالها ما تعانيه الأسرة من عوز وحاجة فأزمعت أن تساعدهم بأي ثمن فمضت خارج الجراج حافية الأقدام باحثة عن أي عمل يسد رمق أخواتها وجدها وجدتها فذهبت لتوها وأخذت تجول الشوارع بحثاً عن عمل ما ومرت الساعات والساعات.. وقبل الأصيل وقفت مريم عند مدخل الجراج والعرق يتصبب من جبينها فأخذت تناديهم والفرح يملأ قلبها كلوا هذا من فضل الله.. مر أسبوع كامل ومريم تذهب في الصباح الباكر ولا تعود إلا في نحر الظهيرة حاملة معها ما تعثر عليه من فتات يقتات به أفراد أسرتها، ولم يدر في خلدها ما أضمره القدر لها في ذلك اليوم النحس فقد كانت تمضي كعادتها بحثاً عن فتات الطعام لأسرتها ،وكانت تراقب المارة بشغف وتنظر إلى الأكياس وهي تهبط في صندوق القمامة ولا تقترب منها إلا حين تتأكد أن الناس قد تناولوا طعام الغداء ورموا ما بقي من فتات في صندوق القمامة كانت على مقربة من صندوق القمامة تراقب عن كثب ما يهبط فيه ، وحين تتيقن أن الناس عادوا إلى منازلهم تمضي مسرعة نحو الصندوق قبل أن تغزوه الغربان، والقطط ، والكلاب الضالة، وفي هذه المرة تقدمت نحو الصندوق وقلبها وجلاً متهدجاً لقد كان مرتفعاً يعلو قامتها بأمتار فتتشبث به ومدت يدها نحو الأعلى وكلما عثرت على كيس وضعته على الأرض بجوارها لتفحصها لاحقاً ومضت تتعلق بالصندوق حتى أعياها ذلك فقررت وضع صفيحة معدنية تحت قدميها لتساعدها في الوصول إلى قعر الصندوق أخذت تتشبث بالصندوق وتبحث عن بقايا الطعام بشغف ولهفة وبدأت في هذه المعمعة تحرك جسدها بعنف فوقعت الصفيحة التي تحت قدميها على الأرض فوجدت نفسها معلقة بحافة الصندوق فسحبته بكل ما أوتيت من قوة باتجاهها فمال نحوها حتى وقع عليها، وانسكبت كل محتوياته على ظهرها ورأسها كانت لا تقوى على دفعه إلى الأعلى أو الخلاص من براثنه فقد هبط على جسدها المنهك كوحش كاسر وقع على فريسته فغاص جسمها بين ركام الصندوق ولم يبق منها غير أطراف سيقانها حاولت جاهدة تحركيهما على الأرض؛ كصفور مذبوح.. كانت تصدر أنيناً خافتاً من بين الركام لا يصل مداه إلا إلى مسامع ما حولها من قطط وغربان،وكلاب.. وفي سرعة البرق لاحت في مخيلتها صور الطفولة فذكرت تلك الأيام السعيدة التي قضتها في كنف أمها وجدتها وجدها حين لم تكن السنون قد أثقلت كاهلها بعد بأوزار الدنيا.
ومن تحت ركام صندوق القمامة لفظت أنفاسها الأخيرة في نحر الظهيرة، ولم يكن من مغيث أو منجد بالقرب منها في هذا الوقت من الظهيرة سوى الغربان التي باتت ترصد عن كثب سيقانها الضاوية منتظرة على مضض سكونهما عن الحركة، كانت الغربان تحلق بالقرب من سيقانها، وترقص بنشوة عارمة ولسان حالها يقول:" اليوم سنحظى بوجبة دسمة من المؤكد أن لحوم البشر ألذ وأطيب طعماً من لحوم الخنافس والجرذان.. لقد سئمنا من أكل تلك الحيوانات البائسة فلدينا اليوم وليمة لا تقدر بثمن إنها تكفي لأيام كثيرة".