بقلم / خالد شفيق أمان
الحديث عن الماضي وعن الحياة الإجتماعية التي عاشها الجنوبيون وتحديداً في العاصمة عدن هو حديث ذات شجون وذكريات جميلة لاتنسى ، فقد كانت مظاهر الدولة المدنية بمعالمها ومؤسساتها ورجالها حاضرة وذات تأثير في مجمل مناحي الحياة ، وعدن كعاصمة لدولة الجنوب العربي ليس في هذا الجزء من شبه الجزيرة العربية فحسب بل في المنطقة العربية برمتها كانت واحدة من المدن التي تميزت بتطورها ورقيها حتى ذاع صيتها وشهرتها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بأعتبارها المدينة التي كان لها الريادة في كثير من المجالات الخدمية والإقتصادية والإجتماعية والرياضية ، وهنا في هذة الصفحة من (صحيفة عدن حرة) سنحاول ان نعيد الى الأذهان جزء من ذاك الماضي الجميل الذي كان وهجه يملأ الدنيا ضياء ، سنسلط الضوء عن جانب إجتماعي على درجة كبيرة من الأهمية يتعلق بالنشىء وكيفية تربيته وتسليحه بالعلم والمعرفة ، هذا الجانب هو التربية والتعليم ممثلا بوزارة كانت تعرف آنذاك بـ (وزارة المعارف) ، لكننا لن نتطرق الى هذا الجانب بشكل اشمل بل سنركز على بعض المنشأت التعليمية وهي المدارس القديمة التي كانت قائمة آنذاك وكانت تعتبر بحق صروح تعليمية وتربوية تهذيبية للطلاب مقارنة بماهو قائم اليوم ، سنعرض هنا بعض مدارس العاصمة عدن وماكان يعتمل فيها من خطط وبرامج تدريسية وتربوية ، وكيفية إدارة هذة المدارس من قبل شخصيات كان لها الدور الأبرز في رفع مستوى التعليم .
لدينا هنا بعض المدارس الحكومية في مدينة كريتر كمدرسة السيلة (Residency School ) ومدرسة المرسابة بالقطيع والمدرسة المتوسطة بالروزميت ومدرسة الخسافومدرسة الطويلة ، وهي المدارس الحكومية التي تميزت بادائها في العملية التدريسية وانشطتها المدرسية وماتقدمه للطلاب من خدمات صحية في إطار اهتمامها ودعمها في الصحة المدرسية تحت شعار دائما مانتذكره ونحن اطفال عندما كان المدرسين يكرروه ويعيدوه ويكتبونه على (السبورة) وهو (العقل السليم في الجسم السليم) ،
الطابور الصباحي :
كان اليوم الدراسي يبدء بالطابور الصباحي لجميع الطلاب في مختلف صفوف المدرسة الواحدة بشكل منظم حيث يكون مدير المدرسة وكافة المدرسين موجودين في المقدمة بمواجهة الطابور ، وكان لكل صف مدرس يطلق عليه (مربي الصف) هذا المدرس كان يقف امام طابور صفه الدراسي ، وكان المدير ونائبه وبقية المدرسين والموجهين يتواجدون في مواجهتهم ، وعبر الميكروفون يتم البدء بتلاوة القرآن الكريم تم لأناشيد صفية وكلمة توجيهية من قبل مدير المدرسة او نائبه ، بعد ذلك يدخل المدرسون الى داخل الطابور للتفتيش اي لإخراج الطلاب الذين لايرتدون الأحدذية الشراعية البيضاء النظيفة او الطلاب الذين أحذيتهم متسخة وملابسهم لاتتفق مع الزي المدرسي المتعارف عليه وهو الشميز (القميص) الأبيض والسروال (البنطلون) الكاكي والحذاء والجوارب البيضاء ،
بعد الإنتهاء يتوجه الطلاب بصفوف منتظمة نحو (المقصف) وهي كافتيريا صغيرة تتبع إدارة المدرسة يعمل فيها عمال متخصصين يلبسون قفازات معقمة ويقومون بتوزيع الحليب كاسات معدنية يملؤها من وعاء كبير (دست) ، فيأخذ كل طالب كأسه ويشربه تحت سقيفة المقصف وفي بعض الايام يرفق مع كأس الحليب المعجنات (البان او الكيك) ، وبعد ان يفرغ الطلاب من هذة الوجبة الصباحية الصحية يتوجهوا الى فصولهم الدراسية .
البرنامج الصحي :
الصحة المدرسية كانت حاضرة في كل مدرسة ، ففي مدرسة المرسابة بالقطيع كان يوجد غرفة خاصة لعلاج الأسنان والتسوس عند الأطفال ، عيادة كاملة مجهزة بكافة التجهيزات الخاصة بطبيب الأسنان ، يتم علاج الطلاب في هذة العيادة بشكل يومي وفقاً لبرنامج خاص معد مسبقاً من قبل اللجنة الطبية ، فيتم معاينة الطلاب خلال العام الدراسي وفقاً لهذا البرنامج ، ويشمل العلج تصفية وخلع الأضراس المتسوسة ،
نظافة المدرسة : فناء وساحة المدرسة وممراتها وصفوفها الدراسية ومداخلها الرئيسية وحماماتها كانت تعنى بعناية فائقة من حيث اعمال النظافة ، كل مدرسة كان يوجد فيها عمال للنظافة يعملون تحت اشراف مدير المدرسة ، ويقومون بعملية التنظيف منذ الصباح الباكر قبل حضور الطلاب ، فيدخل الطالب ليجدها نظيفة فينشرح صدره لبدء يومه الدراسي ، واذا ماتحدثنا عن حمامات المدارس في تلك الفترة فقد يصاب القارئ من جيل اليوم بالدهشة لأنه لايوجدوجه للمقارنة بين نظافتها في تلك الفترة وفي العشرين السنة الماضية ، هناك عامل نظتفة متخصص او اثنين لنظافة الحمامات التي تنظف بشكل يومي وترش بالمبيدات والمطهرات على مدار اليوم الواحد ، احواض خاصة لغسل الأيدي والاوجه واحواض خاصة لغسل الأرجل وتستخدم عادة بعد حصص الرياضة ليدخل الطلاب لغسل ارجلهم ، ليعودوا الى الصفوف من جديد ، هذة الحمامات لايستخدمها المدرسون لان المدرسين خاصة بجانب غرفة كبيرة مخصصة لهم ،
الفصول الدراسية كانت اشبه بما هو معروف اليوم بمعارض الصور والفنون التشكيلية والرسوم والنحث ، كل فصل دراسي كانت تتزين جدرانه بلوحات الرسم والوسائل التعليمية والخرائط وغيرها من الأعمال التي كان مربي كل صف يشرف عليها بشكل مباشر في اطار عمل تنافسي بين جميع الفصول يتم في نهاية الفصل الدراسي بإختيار الفصل الحائز على المركز الأول من قبل إدارة المدرسه التي تقوم بتكريم طلابه ومربيهم .
الزراعة والبستنة :
طبعاً هذا الجانب معدوم تماماً وتلاشى تقريبا بعد عام 67م ، فقد كانت زراعة الأشجار والورود في المدارس جزء من العملية التدريسية والتربوية ، يشرف على هذة العملية عامل زراعي يقوم الطلاب ومدرسيهم بالأهتمام بالزراعة من حيث تشذيب الأشجار وتنظيف احواض التشجير والحشائشوتسقيتها بشكل يومي .
الأنشطة الرياضية :
الى جانب حصص الرياضة التي كانت تخصص لكل فصل يوم في الاسبوع كانت هناك انشطة رياضية مدرسية تقام في اطار المدرسة الواحدة تم في اطار مدارس المدينة من خلال مسابقات مختلفة ، فتقام مباريات تنافسية في كرة القدم بين الفصول الدراسية ، كما تقام مسابقة وفقا للائحة مصغرة بين الفصول في كرة القدم وكرة الطائرة وغيرها من الالعاب تتوج بماراة نهائية يتم فيها اخراج كل طلاب الفصول لمشاهدتها وكل المدرسين ، ويقوم مدير الدرسة بتقديم اكأس للفريق الفائز وجوائز اخرى للاعبين من الطلاب ، وفي نفس الوقت كانت تقام مسابقات بين مدارس المدينة يتم فيها ايضا التتويج للفائزين بمباراةنهائية يحضرها عموم الطلاب والمدرسين في المدينة ، وفي المدرسة المتوسطة التي عرفت بهذا الاسم نتيجة لانها مرحلة تتوسط المرحلة الإبتدائيةوالثانوية ، هذة المدرسة اليوم تعرف بمدرسة (لطفي جعفر أمان) وهي تقع في منطقة الروزميت ، ذكريات لاتنسى لمن التحق بهذة المدرسة ، فكل شباب مدينة كريتر وطلابها درسوا فيها ، وفيها يوجد قاعة رياضية مغلقة كان يطلق عليها (هول Hall) ويمارس فيها الطلاب رياضة كرة الطائرة والريشة الطائرة وتنس الطاولة والعاب القوى والجمباز وبعض الالعاب الترفيهية مثل الكيرم والدمنى والشطرنج ، وفي نهاية العام الدراسي كانت تقيم ادارة المدرسة في الساحة الكبرى وهي ساحة ملعب كرة القدم مهرجانا رياضايا يبدء من فترة العصر حتى العشاء تحت اضواء (كشافات) يتم تركيبها من قبل ادارة المدرسة ويعمل الطلاب المشاركين على تجهيز هذا الملعب الذي يقام فيه مهرجانا لالعاب الساحة والميدان وكرة القدم والكرة الطائرة والجمباز ، كان هذا المهرجان ينتظره الطلاب طيلة العام الدراسي بفارغ الصبر ، وهذة المهرجانات لايمكن ان تنسى او تمحى من الذاكرة لحلاوتها والمتعة التي كانت توفرها للطلاب .
الكتب ومستلزمات الدراسية :
لم يعرف جيلنا الجديد ان مدارس زمان كان في كل واحدة منها مستودع خاص للكتب ومستلزمات الدراسة للطلاب من القرطاسية ، ولكل مستودع هناك اميناً يتواجد يومياً ، كل شي كان يتم توزيعه مجاناً ليس كتب الدراسة فقط بل حتى الكراسات (الدفاتر) والأقلام وتوزع الحقائب لبعض الطلاب من الاسرالفقيرة ، وعندما يمتلئ دفتر الطالب يسئذن مدرسه للذهاب الى المستودع حيث يقوم امين المستودع بالتأشير عليه واعطاءه آخر جديد ، وعندما يصغر القلم الرصاص يذهب ايضا الطالب الى المستودع فيأخذ بدلاً عنه ، كل مدرس قبل ان يأتي الى الفصل الدراسي لبدء حصته الدراسية يمر بالمستودع ولأخدالطباشير والممحاة وبعض الوسائل الخاصة بمادته ، اليوم من المستحيل ان يكون ذلك متوفراً ليس في المدارس الحكومية فحسب بل وفي اكبر المدارس الخاصة ايضاً التي لم تعرفها المدينة الا بعد العام 90م ، وهو العام الذي قضى على ماتبقى من الذكريات الجميلة لتلك الأيام التي لاتنسى .