قلت للحجة فطوم يلعب الطعام ونوع الطعام دورآ مهمآ في حياة الإنسان ، وفي خلال سير التاريخ البشري أعتنى الإنسان بما يأكل ، والغذاء سلاح ذو حدين ففي الإفراط في الطعام يقود الإنسان إلى القبر ، وأيضآ نُقص الطعام يقود إلى نفس المصير .أشتهرت الإمبراطورية الفارسية والعثمانية في أطايب وأنواع وبذخ الطعام وتقديم الطعام ، كان هناك 1000 نوع من الحلوى التركية .في الجانب الآخر من العالم أشهرت الإمبراطورية الفرنسية والإيطالية ببذخ الطعام ، حتى أن الجنرال ديجول قال كيف أحكم أمة تأكل 100 نوع من الجُبنه ، ومن الغريب جدآ إن الإمبراطورية البريطانية – أكبر إمبراطورية في التاريخ البشري لم يكن لهم طُعام يُذكر ، كان الجندي الهندي في الجيش البريطاني يأكل عدة أنواع من الأطعمة والحلويات أكثر مما يأكل الجنرال البريطاني .
في عدن كان الجندي يأكل الزُربيان ، المضبي ، المندي ، فته عسل وسمن ، المعصوب ، الصياديه ، فته بالمرق ، الحنيد ، سمك بالموفى ، سمك صانونه ، والكثير .. كان الجندي يأكل أحسن من قائده العقيد البريطاني. ضحكت الحجة فطوم وقالت يا سلام يا محمد على بلادنا ، يا سلام على حضارتنا وأكلنا الغني اللذيذ .. الليلة محازينا عن " فُتي رُشي " .. يا سلام على فُتي رُشي بلادنا .. أصبر با أعمر ماي فرست بوري وبا اجيب لك " بنت الصحن" وقهوة .. قلت يا حجة فطوم .. الزُربيان .. هو في الأصل أكلة فارسية وأسمها " بريان " وكانت الصحن الأول في الإمبراطورية الفارسية وبعدها أنتقلت إلى الشعوب الأخرى وحتى أسمها قد تغير ، يطلق عليها في الخليج البرياني وهي كلمة في اللغة الهندية - برياني ، وفي عدن يطلقوا عليها الزُربيان ،
يا حجة فطوم الزُربيان في تركيبه وطبخه هو ليس الرزيبان الأصلي وأحيانآ في بعض الأماكن يتحول إلى ما يعرف في اللهجة العدنية "فَلو" – أي رز ولحم ، يا حجة فطوم الزُربيان سيد الأطباق والأكل في الدنيا - حاجة خاصة لا يعرفها إلا من يحسن تذوقها ، وأكاد اجزم القول إن "الزُربيان العدني " يكاد يشبه ومثيل للبريان الفارسي . ففي عام 1987 كنت عائد من ملبورن – أستراليا في طريق عودتي إلى جدة - السعودية ، توقفت في بومباي - الهند في عطلة .
ففي فندق تاج محل- إنتركنتونتال وبمجرد وصولي الفندق طلبت برياني في الغداء وكان برياني لم يحدث له مثيل . طلبت من مدير الفندق إن يسمح لي بزيارة المطبخ ومقابلة الطباخ لأعرف سر البرياني الهندي. يا حجة فطوم قابلت الطباخ وشرحت له الزُربيان العدني ، قال لي الطباخ الهندي إن سر البرياني الهندي يعتمد على : نوع اللحم ، نوع الرز المستخدم يجب أن يكون بسمتي نوع فاخر مثل الشعر خفيف غير ثقيل ، والعامل الآخر والمهم نوعية "الزعفران" يجب أن يكون زعفران ايراني من أصفهان ، وقال ننحن لدينا زعفران هندي ولكن أقول بصراحة نحن نستعمل الزعفران الإيراني الغالي الثمن وهو سر البرياني ، وأيضآ هناك عامل آخر هام إن كل البهارات الهندية المستعملة هي بهارات خاصة وليست من النوع التجاري في السوق - هذه البهارات خاصة بفندق تاج محل – إنتركونتنتال .
ثم أردف قائلآ والعامل الآخر هو العامل البشري الطباخ – خبرة الطباخ وتجارب السنين ، قال لي الطباخ إنني أطبخ البرياني منذ 20 سنة في هذا الفندق وهذه مهنة أبي وجدي، وفي هذا المطبخ أطبخ البرياني فقط . يا صديقي البرياني هو سر في الهند – مثل العزف على آلة السيتار الهندية .. اللحن مهم ولكن العازف هو الأهم. شكرته وودعته فقال ضاحكآ لا تستغرب حين ترى فاتورة الفندق حين تقدم إليك عند مغادرتك الفندق وتعرف ثمن وجبة البرياني ، قلت له أعرف ذلك هذا فندق خمسة نجوم . قال الفندق خمسة نجوم .. و البرياني الهندي سبعة نجوم .
يا حجة فطوم بنا أحازيك عن الزُربيان العدني وسر طباخته : الزُربيان هي أكلة عدنية فاخرة وتاريخية وكانت تقدم في المناسبات والأفراح أو الأتراح والأعياد ، وكانت أصلآ تعد خارج البيوت، وفي الحقيقة سر الطبخة أعتمد على الأغنام الصومالية ، ولا يصلح الزُربيان إلا بغنم صومالي والسر هو في شحم "سوبلة " الغنم الصومالية الفاخرة ونوعية اللحم . كان هناك طباخين مشهورين في عدن مثل باوزير ، الكبه ، على ماجد ، البُهري و حنيف وهم طباخين مشهورين في عدن ، كان الطباخ هو المقاول لإعداد الطعام في حالة الزواج أو العزاء ، يأتي الشخص ويطلب غذاء مثلآ ل400 أو100 شخص ، هنا يطلب الطباخ عدد كدا من البرابر الصومالي أغنام صومالي فقط ، وكدا كيس من الرز البسمتي الهندي الفاخر ، وبقية الأشياء يشتريها الطباخ ويطالب بثمنها إضافة إلى الأتعاب ، والسبب في طلب الغنم الصومالي لطيب شحم البربري الصومالي لأن الطباخ لا يحتاج إلى زيت أو سمن في الطبخ وتكون هناك رائحة جميلة للأكل. يبدأ عمل الطباخ من الفجر ومساعده صبي صغير إسمه " البوي " ،
حيث يقوم هذا المساعد بتقطيع كمية كبيرة من البصل والبطاطا ، ثم توضع في قِدر كبير جدآ ، وهنا سر الطبخة حيث يقوم الطباخ " بمزج الحوايج " أي البهارات بكميات محدده وتعتبر فن بحاله ، والبهارات هي القرفه ، الكمون ، الشمار ، زهر الليمون ، الكاري ، البسباس الأحمر ، الملح ، القرنفل ، الهيل ، الفلفل الأسود ثم سيد البهارات " الزعفران " الغالي ، ويضاف إلى هذا المزيج " القطيب " أي الزبادي ، تمزج هذه البهارات بقطع اللحم الصومالي مزجآ قويأ ، قطع اللحم يجب أن تكون متساوية ، ويترك هذا الخليط من الرابعة فجرآ حتى الساعة الحادية عشر صباحآ . في هذه الفترة يقوم الطباخ بإعداد نار الطبخ من خشب خاص "سُمر" وتبدأ الأخشاب في الإحتراق بطريقة مميزة فلا تكون عالية أو منخفظة .
ضحكت الحجة فطوم وقالت هذا فن من الفنون في المطبخ العدني . قال لي أحد الطباخين في عدن إن زهر الليمون وهو نوع من الحوامض البهارات يقوم بنضج اللحم بطريقة غريبة ويتغلغل في طبقات اللحم إضافة إلى عامل الزبادي ، هنا يصبح اللحم مثل الحلوى رطب . في الساعة الحادية عشر صباحآ يقوم الطباخ ومساعده بغسل الرز البسمتي الهندي الفاخر ويقوم الطباخ بطهي مزيج اللحم والبهارات على نار هادئة ، وينضج نصف نضج يصبح نوع من الصانونه ، صانونه لحم بعدها يأخذ الطباخ هذا المزيج بعيدآ ويحضر قِدر لغلي الرز نصف غليه ، ثم يأتي بقدر ثالث ، في القِدر الثالث يقوم الطباخ بعمل طبقات .. طبقة أولى من الرز ، ثم يضيف إليها خليط اللحم والبهارات ثم يغطيها بطبقة من الرز ، ثم لحم وبهارات ، يجعلها طبقة تلي طبقة حتى يمتلي القدر الكبير بهذا الطبقات و المزيج ، ثم يقوم بإحراق قشر البصل في الأعلى ليكسبها رائحة جميلة ، ويضع فوق كل ذلك قطع من الشحم "السُبله" الصومالي الفاخر حتى يذوب بين كل هذا الخليط ، ثم يغلق فم القِدر بالعجين حتى لا تتسرب الرائحة إلى الخارج .
السر هنا هو متى يُنزل الطباخ القِدر الكبير من فوق النار. قالت الحجة فطوم ما أجمل هذه المحزايه .. محزاية فُتي رُشي ، نحن شعب تاريخي غني يحب الأكل الغني .
محمد أحمد البيضاني
كاتب عدني ومؤرخ سياسي