تفككت كلمة القبائل فتهاوت قبيلة قبيلة.تباعد الريف، فسهل ابتلاعه منطقة منطقة.وحين وصل الأمر إلى المدن؛ تساقطت مدينة مدينة.لم يبق في تعز غير شارع واحد ولكنه مكتظ بالرجال.كانت جغرافيا البلاد تتساقط نتيجة الأهواء السياسية وسوء تقدير التحالفات التأديبية التي أدت إلى انقسام الجيش اليمني، فذهب صالح بقسمه وأنصاره إلى الحوثيين. «أخطأ وعاد، وكلنا نخطئ ونعود، وليغفر الله للجميع».أكثر من عشرة ألوية وآلاف أنصار الحوثي بأسمائهم المختلفة وأوصافهم التي تشي بالرعب مثل كتائب الموت التي اقتحمت عمران، الكتائب التي تم تدريبها في إيران وغيرها من المسميات، كان كل أولئك يحاصرون المدينة لتحقيق نصر يتيح لهم المرور بذلك الشارع في تعز.لم تكن المساحة تزيد عن خمسة كيلو، وكانت المناطق المرتفعة المطلة على المدينة كلها في يد الأوغاد في ذلك الوقت: جبل صبر، قلعة القاهرة، الأمن السياسي، فندق الاخوة، كان مدى رصاصة البندقية التي يتكتفها المسلح الحوثي يصل إلى شارع جمال عبد الناصر بكل سهولة.لكن المئات من أبناء تعز، وغيرهم من المحافظات الأخرى، مدنيون وعسكريون، انطلقوا بأرواحهم يذودون عن حياة المدينة وتوسيعها شيئاً فشيئاً.صاروا آلافاً وتحت مسميات مختلفة يتحدون بطش المهاجمين.استنزفت تعز آلاف الذين عُرفوا بالحوافيش، أعادت آلاف الحوثيين كصور وملصقات لتشكل عقدة نفسية وتاريخية للإماميين.وبالمقابل، ارتقى مئات الشهداء وربما الآلاف، أبطالاً في الجبهات، أو مدنيين بالقذائف العشوائية أو رصاصات القناصين المحترفين، وبفضل هؤلاء الأبطال، بعد الله، توسعت المدينة، صار الجبل والقلعة جزء من الشارع، وامتدت مساحة الحرية بفتح شريان الضباب، ليعانق جبل هان، توأمه جبل جرة، الجبل الصغير الأسطوري.التضحيات الملهمة للمدينة الملهمة، هي التي منحت لنا هذا المناخ البسيط لنتنفس فيه، ونشتم فيه، نتبادل الاتهامات ونشوه الحقائق، تسير فيه الأهواء السياسية كما تشتهي ونلمز بعضنا البعض بداعي المصلحة الوطنية، نصرخ في وجوهنا ونبدو ليلاً كخصوم متشاكسين فيما بيننا ليأتي الصباح ونحن نضحك كأحبة متصافين.في تعز، المدينة تحديداً ومناطق سيطرة الشرعية في المحافظة، الأوضاع الاقتصادية متدهورة، ولكن لا أحد يضيق عليك مثل الحوثيين، ولا يمكن مقارنتها بمناطق سيطرة المليشيا على أي حال.هنا توجد الحياة، حيث لا أحد يغصبك على ما تكره، لا أحد يرغمك على الاستماع لمحاضرات عبده الحوثي ولا قراءة ملازم أخيه حسين، حيث توجد الحياة بإمكانك أن تسب الرئيس وأعضاء المجلس الرئاسي ولا أنصح أحداً بذلك، كما يمكنك التشكيك في نوايا الشهداء وخاصةً إن كنت خبيثاً وصاحب أهواء انتقامية.. لن يعترضك أحد، على الأقل هذا هو الواقع العام في المدينة وإن تواجدت بعض الوقائع النادرة التي تخرج عن هذا السياق.في المناخ الممتد من المدينة إلى المخا، مئات القصص الملهمة، مبتورو الأطراف المبدعون، الآباء الذين قهروا ظروفهم وساعدوا بناتهم لإتمام الدراسة الجامعية، ذوو الاحتياجات الخاصة الذين غلبوا الظرفين العام والخاص ولم يتوقفوا عن الإنجاز، الأمهات اللائي حملن على عواتقهن مهمة الآباء الشهداء أو الغائبين..في المدينة الملهمة، إنجازات لم تخرج للنور أو نتقاعس في إخراجها لأنها صارت جزء من الحياة، وتفاصيل لأبطال لم تتوفر لهم الفرصة لروايتها. في تعز أحياء ملهمون وموتى ملهمون، حاضرون ملهمون وغائبون ملهمون، وما كان للحياة أن تسمح بذلك لو لم يكن إلهام التضحية..