آخر تحديث :الإثنين-06 مايو 2024-03:51م

عيدروس.. الحلواني الذي فارق..!

الخميس - 27 يوليه 2023 - الساعة 05:55 م

محمد العولقي
بقلم: محمد العولقي
- ارشيف الكاتب


وتتجلط الكلمات في نعيك يا عيدروس عبد الرحمن، ترتبك الأفلاك، ومعها تتبعثر مجرة المفردات، و تهجر اللوعة مداراتها..

لك فقط يا حلواني المقامات الرياضية الرفيعة تنتحر الأشواق، لا شيء بعدك يضبط وزن القافية، و قد كنت شاعرها بلا منازع، لا شيء  يعدل ميزان محتواها و مبتغاها، و قد كنت أصل المقادير و فصلها، لا أحد يبني بيتا من قصيدة يسكنها نبضك المتمرد على التقاليد،  وقد كنت وزنها وقافيتها وتفعيلات بحرها.

بعدك لا شيء يعدل المزاج، أو يضبط السكر في دم تركيب المفردة الرياضية، طيور السلطنة الأدبية هجرت عشها، و حديقة الإبداع جفت، لا ينبت فيها أي زنبق، زهورها في غياب فلاحها لا تغري الفراشات..

 بعدك يا عيدروس كل شيء انفرط عقده، فن المقالة  يتقاعد، والشوق إلى الغوص في أحشاء بحرك بحثا عن  الدر الكامن تقطعت سبله..

آه يا عيدروس.. ما أقسى على النفس أن تنعي ذاتها، و الأكثر إيلاما أن يكبر حزني بداخلي حتى أصبح أشجارا ..

سنوات بطعم العسل يا عيدروس و أنت تخوض بحارا و بحارا، وحدك كنت فيروزا للشطآن، تغوص في بحار ذواتنا المنكسرة و تعود إلينا محملا بالربيع في غير أوانه.

لا أحد يشبهك يا عيدروس في محراب صمتك المتفجر (فحرة)، ولا أحد يجاريك في رد الفعل، حروفك وإن كانت تلالية الهوى و الهوية، هي الأثقل في الميزان الصرفي للصحافة الرياضية.

تعلم يا عيدروس أن نعي الذات جلد وسلخ، في داخلي سرداب ألم و روضوض، في كياني مخيمات من عويل و مضارب من نحيب، كيف أنعيك و قد توغلت من زمان في مساماتي؟

كيف أرثيك يا ملك الصياغة و الشياكة السجعية و أنت تعيش تحت جلدي و تتغذى من قفصي الصدري؟ 

كيف أبكيك حرقة و قد سكبت كل عطر مواويلك الإعلامية في وريدي؟

 إلى أين الهروب من هذا الغروب الدامي يا عيدروس؟

النحيب وحده مأساة تعرفها..

العويل وحده سيناريو تراجيدي تكتبه دموع حراء تعرفها أيضا.

 يا عيدروس قيثارتي حزينة، لحنها المنغم صار ذكرى من لوعة، و تلك الربابة تبكيك لحنا، آه يا قمر عيدروس كم هو مروع أن تشتيكي من نحيبي أدمعي.

 في كل مرة يا عيدروس  تلامس فينا كبرياء لا نعرف كنهه، و كلما أهديتنا أقراصا من عسلك الصافي المصفى لا نرتوي، شعارنا : المزيد من شرابك اللذيذ المستساغ، لم تتذمر و يضيق صدرك من تلصصنا على معملك و مطبخك الإبداعي، كنت تلبي نداء شهيتنا بمائدة حلوى منزلة من أعمق أعماقك..

 يا عيدروس كنت لنا الدافع، و الدواء الناجع، و الرهان النافع، ما مر يوم إلا و ترسم بالكلمات لحنا شجيا يلامس فينا الحنين إلى أمجاد اللغة الرفيعة ..

 أما و قد آخيت التراب، فلا بأس من انبعاث شوق من تحت الركام و رذاذ الغمام، أبكي فيك طل القمر السابح في ملكات السماء، أبكي فيك عبق الدهشة و أريج صدى السنين الحاكي.

 منذ أن استوطن الألم الساقط جسدك النحيل و جرحك الدامي أطول من الأيام، لكنها تبقى رحلة أخيرة ابتلاك الله فيها لتتطهر حتى من ذنوبنا تجاهك.

 ألا يكفي يا عيدروس أن أرثيك بنحيب (خنسائي) احتار من حولي في توصيفه:

قذى بعينيك أم بالعين عوار؟

 ألا يكفي يا عيدروس أن أمتهن كل أحزان ابن الرومي و التصق بوجع خالد يضغط على أنفاسي كلما لاح طيفك؟

 هكذا تختفي الظواهر المدهشة بنفس سرعة ظهورها، أكثر من أربعين عاما و عيدروس يعيش بيننا مثل نسمة الهواء العليل، يكتب فتتفجر الأوراق بين أنامله الذهبية بحارا و أنهارا، لم يكن يوما حجره عقيما، كان من النوع الذي يبعث فيك التأمل الفلسفي.

 لا أحد يشبه عيدروس، هو كتاب من نسخة واحدة فقط، و من حسن حظنا أن نسخته العدنية احتفظت بكل فواصل نبوغها.

 قلده الكثيرون، اقتربوا من مرآة محيطه، حفروا في جسد أرشيفه أخاديدا لمعرفة سر سحره الباتع، و في كل مرة تفشل المحاولات، و المسألة بالطبع جينات نادرة وهبها الله لعبده عيدروس.

 عيدروس لم يبز منافسيه في فنون العناوين المبتكرة ذات الإيقاع السجعي فحسب، لكنه كان حاويا تخرج المفردات من رأسه ساخنة مطحونة ممضوغة يسهل بلعها.

لا أحد يشبه عيدروس في تبسيط المبسط و ترويض الصعاب و محاصرة المبهم، كان مثل الجواهرجي يطوع الكلمات و يصيغ المفردات، فتشعر أنك أمام معلقات مذهبة لا تسكن سوى وجدان الناس.

 عرفت عيدروس وقد كنت تلميذا غاويا يقتفي أثر شعراء القافية الرياضية، و أحببته كمعلم، احتفظت له بمساحة شاسعة من الود و الاحترام، عاصرته كزميل و أصبح مثل الملح والسكر لا غنى عنه مع قهوة أو شاي الصباح. 

 طوى الردى عيدروس بعد دراما من العذاب، و هذه إرادة الله، كلنا راحلون و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الأكرام، ليس بوسعي أمام هذا المصاب الجلل سوى التواصي بحق المؤمن الصابر الذي إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله و إنا إليه راجعون.