آخر تحديث :الجمعة-17 مايو 2024-10:14ص

رسالة إلى مسلح!

الإثنين - 17 أبريل 2023 - الساعة 12:00 ص

خالد الرويشان
بقلم: خالد الرويشان
- ارشيف الكاتب


عزيزي المسلح: لا تستغرب أن أناديك: "يا عزيزي".. فأنا لا أستطيع أن أكره، إن الكراهية ليست مهنتي، ربما تكون قد قتلتني.. أو قتلت طفلًا من أطفالي.. أو تكون قد أطفأت الشمس والقمر والحياة.. ولكنني رغم هذا الحزن الكبير الذي يملأ أيامي.. ورغم هذا الرعب الذي صار جزءًا من حياتي اليومية.. فإنني لا أستطيع أن أكرهك، فالكراهية ليست مهنتي.

عزيزي المسلح: أبعث إليك بهذه الرسالة شاكرًا.. مودعًا.. فقد جاء الوقت الذي يحق لك فيه أن تأخذ إجازة.. ويحق لنا فيه أن نسترد أعمارنا الضائعة..

إنني لا أعرف اسمك الحقيقي.. ولا عنوانك الحقيقي.. فجأةً صرتَ كل الأسماء والعناوين، وصرتَ كل الأزمنة والأمكنة، وصرتَ أشهر من جميع نجوم الأدب والفن والمسرح، صرتَ أنت المسرح..  والمسرحية.. وصرتَ أنت الحوار الوحيد.. والبطل الوحيد..  أما نحن فقد كنا متفرجين بالإكراه على رواية لم نرغب في حضورها. 

عزيزي المسلح: لن أقول لك إنه يسعدنا أن ترينا (عرض أكتافك)، ولن أقول لك إن إقامتك معنا كانت كابوسًا مزعجًا، ومسلسلًا طويلًا من مسلسلات الرعب.. ولن أقول لك إنك سرقت الفرح من عيون أطفالنا، وجعلت صباحنا غابة من المواجع، وليلنا كهفًا للأحزان.. لن أقول لك كل هذا.. فأنت قبل كل شيء، وبعد كل شيء، واحد من أفراد العائلة، كان بيني وبينك في سالف الزمن خبز وملح ومودة ورحمة. 

 وفجأةً نسيتَ الخبز والملح والعشرة الطيبة، وطويتَ بساط المودة، ووضعتَ البارودة بيني وبينك، وبدأتَ تكلمني بلغة أخرى هي لغة العنف.

لغة العنف هي اللغة الوحيدة في العالم التي ليس لها قواعد ولا أصول.. ولا أبجدية.. ولا يضطر المرء كي يتعلمها للذهاب إلى المدرسة.. ثم هي لغة غير موجودة في الكتب والقواميس، موجودة فقط في ملفات تجار السلاح.

ﻋﺰﻳﺰﻱ ﺍﻟﻤﺴﻠﺢ:ﺃﺭﺟﻮ ﺃﻥ ﻻ‌ ﺗﺘﺼﻮﺭ ﺃﻥ ﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻚ ﻻ‌ ﻳﺸﻐﻞ ﺑﺎﻟﻲ.. ﺇﻧﻨﻲ ﺩﺍﺋﻢ ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﺑﻚ.. ﻣﺎﺫﺍ ﺳﺘﻌﻤﻞ؟ ﺃﻳﻦ ﺳﺘﻌﻤﻞ؟ ﻛﻴﻒ ﺳﺘﻌﻤﻞ؟ أية ﻣﻬﻨﺔ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺃﻥ ﺗﺴﺘﻮﻋﺐ ﻃﻤﻮﺣﻚ؟ ﻛﻴﻒ ﺳﺘﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ ﺃﺻﺪﻗﺎﺋﻚ ﻭﺻﺪﻳﻘﺎﺗﻚ ﻭﺃﺳﺎﺗﺬﺗﻚ ﻭﺭﺅﺳﺎﺋﻚ؟

ﻟﻘﺪ ﺃﻋﻄﺘﻚ ﺍﻟﺤﺮﺏُ العبثية ﺳﻠﻄﺔً ﺍﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ ﺗﺘﺠﺎﻭﺯ ﺳﻨﻚ ﻭﻣﻮﺍﻫﺒﻚ ﻭﺛﻘﺎﻓﺘﻚ ﻭﺇﻣﻜﺎﻧﻴﺎﺗﻚ.. ﺃﻋﻄﺘﻚ ﺳﻠﻄﺔ ﺍﻟﻤﻌﺪﻥ ﺍﻟﺒﺎﺭﺩ.. ﻭﺑﻬﺬﻩ (ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﺍﻟﻤﻌﺪﻧﻴﺔ) ﺍﺳﺘﻄﻌﺖ ﺃﻥ ﺗﻘﻠﺐ ﻛﻞ ﺍﻟﻤﻌﺎﺩﻻ‌ﺕ، ﻭﺗﻠﻐﻲ ﺍﻟﺤﺪﻭﺩ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻤﻜﻦ ﻭﺍﻟﻼ‌ﻣﻤﻜﻦ.. ﻭﺍﻟﺸﺮﻋﻲ ﻭﺍﻟﻼ‌ﺷﺮﻋﻲ.. وتقول للشيء كن فيكون.. 

وﻣﺎ ﻳﺸﻐﻞ ﺑﺎﻟﻲ ﻫﻮ ﻫﻞ ﺑﻮﺳﻌﻚ ﺃﻥ ﺗﻨﺴﻰ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ (ﺳﻠﻄﺘﻚ ﺍﻟﻤﻌﺪﻧﻴﺔ) ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻋﻄﺘﻚ ﺇﻳﺎﻫﺎ ﺍﻟﺒﻨﺪﻗﻴﺔ.. ﻭﺗﻌﻮﺩ ﺇﻧﺴﺎﻧًﺎ ﺳﻮﻳًّﺎ ﻣﺜﻠﻨﺎ؟ 

ﻫﻞ ﺑﻮﺳﻌﻚ ﺃﻥ ﺗﺼﻐﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﺤﺎﺿﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﺇﺫﺍ ﻛﻨﺖ ﻃﺎﻟﺒًﺎ.. ﻭﺗﺴﺘﻘﺒﻞ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺒﺸﺎﺷﺔ ﻭﺭﺣﺎﺑﺔِ ﺻﺪﺭ ﺇﺫﺍ ﻛﻨﺖ ﻣﻮﻇﻔًﺎ؟ ﻭﺗﺤﺘﺮﻡ ﻗﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﻤﺮﻭﺭ ﺇﺫﺍ ﻛﻨﺖ ﺗﻘﻮﺩ ﺳﻴﺎﺭﺓ؟ ﻭﺗﻘﻒ ﺑﺎﻟﻄﺎﺑﻮﺭ ﻛﺎﻷ‌ﺧﺮﻳﻦ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺴﻴﻨﻤﺎ ﻟﻠﺤﺼﻮﻝ ﻋﻠﻰ ﺗﺬﻛﺮﺓ؟؟

ﺛﻢ ﻫﻞ ﺳﻴﻜﻮﻥ ﺑﻮﺳﻌﻚ، ﻳﺎ ﻋﺰﻳﺰﻱ ﺍﻟﻤﺴﻠﺢ، ﺑﻌﺪ سنوات ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ، ﺃﻥ ﺗﺘﻜﻠﻢ ﺑﻬﺪﻭﺀ ﻣﺜﻠﻨﺎ.. ﻭﺗﺒﺘﺴﻢ ﻣﺜﻠﻨﺎ.. ﻭﺗﺮﺩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻬﺎﺗﻒ ﻣﺜﻠﻨﺎ.. ﻭﺗﻌﺸﻖ ﺍﻣﺮﺃﺓً ﻣﺜﻠﻨﺎ، ﻭتتعشى ﻣﻌﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺿﻮﺀ ﺍﻟﺸﻤﻮﻉ ﻣﺜﻠﻨﺎ.. ﻭﺗﻮﺻﻠﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﻨﺰﻟﻬﺎ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻌﺸﺎﺀ.. ﻭﻫﻲ ﻗﻄﻌﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ؟؟؟

ﻫﻞ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻚ ﺃﻥ ﺗﻨﺴﻰ (ﺫﺍﻛﺮﺗﻚ ﺍﻟﻤﻌﺪﻧﻴﺔ) ﻭﺗﺒﺪﺃ ﻣﻦ ﺃﻭﻝ ﺍﻟﺴﻄﺮ ﻛﻤﺎ ﻳﺒﺪﺃ ﺍﻟﻄﻔﻞ ﻣﻦ ﺭﻭﺿﺔ ﺍﻷ‌ﻃﻔﺎﻝ؟ ﻫﻞ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻲ ﺃﻥ ﺃﺩﻋﻮﻙ ﺇﻟﻰ ﻣﻨﺰﻟﻲ… ﻭﺃﺳﻤﻌﻚ ﺷﻌﺮًﺍ؟!

عزيزي المسلح: لقد كنت على مدى سنوات ملكًا يحكم بلا وزراء ولا دستور.. كنت القانون الذي يكتب نفسه.. والشرعية التي تضع تحت أقدامها كل الشرعيات.. كنت المستشار القانوني الذي لا يستشير أحدًا.. والقاضي الذي يرسلنا إلى حبل المشنقة قبل أن يسمع شهادتنا.. كنت السلطان الذي لا يحتاج في ممارسة صلاحياته إلى انتخابات.. وصناديق اقتراع، واستفتاء شعبي.. 

كنت خلال سنوات وليَّ نعمتِنا.. وناظرَ مدرستِنا.. وشيخ حارتنا.. وصِهرَنا.. والعريس الاحتياطي لزوجتنا.. بل كنت أكثر من ذلك.. كنت القضاء والقدر. فبماسورة بارودتك كنت تقيس أيام حياتنا بالمليمترات.. وبرصاصاتك كنت تكتب سيرتنا الذاتية.. ومن بين يديك كانت تصدر تذاكر سفرنا إلى العالم الآخر.. 

عزيزي المسلح: أكيد أننا لن نشتاق إليك.. ولن نذرف الدموع على فراقك.. ولكن الأكيد أننا لا نحقد عليك، وإنما نحاول فهمك وفهم الخلفيات التاريخية، والسياسية، والاجتماعية، والنفسية التي سحبتك من بيتك أو مدرستك، أو جامعتك، وزرعتك خلف أحد الحواجز.. 

ففجأةً.. وجدتَ نفسك محاطًا بصيحات العشيرة واستغاثاتها وولولة نسائها، فلم تجد أمامك من سبيل سوى أن تركب خيول الغضب مع الراكبين.. وترفع بيارق الثأر مع الرافعين.. وتلتحق بصفوف المحاربين من بني عشيرتك دون أن تسألهم (على ما قالوه برهانا).

لقد استيقظتَ يا عزيزي فوجدتَ نفسك مسلحًا كما تجد السمكة نفسها مسلحة بزعانفها وقواطعها.. وكما يولد الثور الإسباني ومعه قرونه الحادة.. وكما لا تستطيع السمكة أن تتخلى عن زعانفها.. والثور الإسباني أن يتخلى عن غريزته.. لم تستطع أن تهرب من محيطك القبلي.. والطائفي.. 

عزيزي المسلح: ليس في نيتي أن أناقشك.. أو أحاسبك، ولكنني أكتفي بسؤالك: هل أنت سعيد بما فعلته؟! هل ساعدك هدمُ بيتي على تعمير بيتك؟! وهل أدّى موتي إلى إطالة حياتك؟!

إذا كان موتي قد حقق لك ربحًا، فأنا مستعد أن أموت مرة ثانية.. وثالثة.. ورابعة.. وعاشرة، حتى تصير حياتك أطول وأجمل..

وإذا كان جوعُ أطفالي قد أدى إلى شبع أطفالك، فإنني أعتبر التعويض عادلًا.. ولكن جردةً سريعةً لحساب هذه الحرب تثبت أن خسارتك تعادل خسارتي، وموتك بحجم موتي.. 

وفي هذه الحرب يا عزيزي المسلح تساوينا في الهزيمة.. وتساوينا في عدد قبورنا.. وعدد موتانا.. فهل كانت المساواة التي كنا نحلم بها..  أن أسلمك جثةً.. وتسلمني بالمقابل جثة؟

وبدلًا من أن يزداد عدد أولادي، وعدد أولادك ويكبر الوطن.. قررنا أنت وأنا أن نقطع ذرية هذا الوطن.. ونذبح كل أطفاله ونرميهم في البحر. 

عزيزي المسلح: كنت تظن أنك بالسلاح تلغيني.. وتسجل هذا الوطن في الدوائر العقارية باسمك وحدك.. ولكن.. ماذا تفعل بكل هذا الوطن الجميل وحدك؟! تخزنه؟ تقدّده؟ تنقعه وتشرب ماءه؟!

ماذا تفعل بالبحر، والثلج والمطر، والحبق والوزّال والشربين وبساتين اللوز والتفاح وعرائش العنب؟!

ألا تعتقد أنك ستضجر وحدك في وطن لا تسمع فيه إلا صوتك، ولا ترى في ماء ينابيعه إلا وجهك؟!

ألا تعتقد أن سمك البحر، وغلة البيدر، وخبز التنور، وضوء الشمس، وعيون النساء، تكفيك وتكفيني.. إن أيّ وطن تحلم به، سيكون وطنًا كيميائيًّا، اذا لم أسكن فيه معك.

إن كرسيّك على المائدة لا يزال خاليًا، فاترك بارودتك خارج الغرفة، واجلس معنا… فلدينا خبز كثير.. وحب كثير.. وقصائد جديدة سأنشدها لك عندما نلتقي.