آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-11:23ص

التغير المَناخي واقعٌ ومَخاطر

السبت - 05 نوفمبر 2022 - الساعة 02:53 م

فيصل الشميري
بقلم: فيصل الشميري
- ارشيف الكاتب


التغير المَناخي واقعٌ ومَخاطر


فيصل بن أحمد الشميري*
يستحوذ مُصطلح التغير المَناخي في الآونة الأخيرة بشكل مُطرد على اهتمام محلى ودولي كبير، وأصبح يؤرق الجميع بلا استثناء، وخاصة الـمُهتمين بالبيئة والمناخ والزراعة والغذاء والماء، فلم يعدّ التغير بمفهومه المُتعارف في التحول البيئي من حالة إلى حالة أخرى بشكل مُفاجئ مما ترتب عليه مخاطر على مدى زمنى يصعب التكهن بمداه، والمتمثل في ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض مُعدل هطول الأمطار والاحتباس الحراري والجفاف والتصحر والفيضانات...إلخ، فلقد أصبح يشكل خطراً على الأمن الغذائي والمائي العالمي، وبالتالي على حياة البشرية والكائنات الحيّة بوجه العُموم. 
تطورت البشرية بتطور وسائل الصناعة والنقل والإنتاج والطاقة، فشكلت عبئاً ثقيلاً على النظم البيئية، في زيادة إنتاج الغازات الدفيئة، وقطع الأشجار وتلاشي الغابات وتناقص الرقعة الزراعية، والمساحات الخضراء، فتغير النظام الإيكولوجي، عبر عقود من الجهل تارة ومن اللامبالاة تارة أخرى فأصبح تأثيره يزداد يوماً بعد يوم بشكل أسرع، وعندما اقترب الخطر سريعاً من الغذاء والماء، أصبح التغير المَناخي أرقٌ يُهدد الجميع بعد جائحة كورونا.
إن الكون برمته يمشى على إيقاع مُنتظم مُترتب مُتجانس مُتناسق بشكل لا يتخيله العقل البشري، لكن عندما ينحرف فلا أحد يستطيع إيقافه والحد من انحرافه، بسبب السلوكيات الشاذة والمنحرفة التي طغت على عصرنا الراهن، وأهما الإسراف والتبذير واستهلاك الكثير دون الحاجة إليه. 
كان فيما مضى حبةُ القمح أو الشعير أو الذرة أو الأرز لها قيمتها، وقطرة الماء لها ثمنها، والشجرة كنز، والأرض عِرض، واستمر الناس على هذا المنوال في الحفاظ عليها، فكانت البيئة حينها مُزدهرة مُستقرة مُتنامية منتجة، ولكن عندما أصبح قاطرات القمح والذرة تُرمي للبحار، للحفاظ على قيمتها السعرية في الاسواق، وإهدار آلاف اللترات لغسيل السيارة، والتبذير والمبالغة في استهلاك الغذاء مع تطور مظاهر الترف والتقليد، زادت احتياجات البشرية، فأنحرفت البوصلة البيئية، فتغير المناخ والواقع من حولنا. 
ولن يقتصر تأثير التغير المناخي على عصرنا الحالي بل على الأجيال المتلاحقة من بعدنا، فأي أرث سنتركه لهم، حروبٌ ودمار واسلحة دمار شامل، وجفاف، غابات مُدمرة، واراضي مُتصحره، ومصانع لا تتقيد بالشروط البيئية، واستمرار توليد الطاقة بالطرق الـمُؤذية للبيئة.!
مما نتج عن ذلك ارتفاع ملموس لدرجات الحرارة سنوياً، حيث بلغت في السنوات الأخيرة 1.7 درجة مئوية عن المتوسط السابق قبل العصر الصناعي 1.09 درجة مئوية، مضافةً للمتوسط العام لدرجة الحرارة سنويأً، وهذا يشكل عبئاً على الكائنات الحية وعلى المناطق المُتجمدة، فقد لوحظت في السنوات الأخيرة ارتفاع معدل الفيضانات والعواصف في كثير من الدول بسبب ذوبان الجليد، وفي الوقت نفسه جفاف في دول أخرى، فارتفعت حرارة الأنهار والبحار والمحيطات، التي تمتص حرارة الاحتباس الحراري، فأصبحت حياة الملايين مُهددة في الجزر وعلى الشواطئ والمناطق المنخفضة عموماً في العالم، ولم يقتصر الأمر على ذلك فلقد أثر أيضاً على الكائنات الحية الأخرى فأصبح يهدد كثير من الأنواع، فلقد ظهرت أنواع جديدة مُنافسة للبشرية في غذاءها ، واختفت أخرى كان لها دور في التناغم البيئي، بعضها تأثر بسبب الاحتباس الحراري، وبعضها تأثر بفقدان بيئتها كالغابات والمروج، والبعض الأخر بالطقس القاسي والآفات والأمراض المستوطنة والعابرة والمُستحدثة، والبعض الأخر بسبب تغير في حموضة مياه البحار والمحيطات والمجمعات المائية، وفي دراسة تقول "أن العالم اليوم يفقد حالياً بمعدل يفوق ألف مرة عما كان عليه في القرون الماضية من الكائنات الحية"، مما ينتج عنه نقص حاد في الغذاء، فزادت نسبة المجاعات حول العالم، والأوبئة والأمراض، وكذلك الصراعات ليحدث التهجير القسري وتكدّس الناس في أماكن وخلو أماكن أخرى من الحياة، مُخلفاً الفقر والجوع والمرض واستمرار وتوسع دائرة الصراعات.
كما نتج عن التغير المناخي الكثير من الأشياء والأحداث التي يصعب تصورها في العقود السابقة كانتشار الأمراض البكتيرية والفطرية والفيروسية بشكل مُلفت وظهور سلالات جديدة مُقاومة، وتفشى الآفات الحشرية وظهور أنواع جديدة لم يكن لها تأثير سابقاً بسبب خلل في التوازن البيئي، كظهور سوسة النخيل مثلاً، كذلك حدوث تغير في مواعيد زراعة الأصناف الزراعية، ونتيجة للتصحر والجفاف أيضاً ارتفعت نسبة الملوحة أو القلوية في الأراضي، وانخفاض مُعدل هطول الأمطار وتذبذب في مواعيده، كما حدث في القارة الاوربية مؤخراً، كما نرى الكثير من أخبار احتراق الغابات في مناطق كانت تعدُّ باردة، حتى على مستوى الطيور هناك هجرات مُستحدثة وتغير مُفاجئ في مسار حركتها الموسمية، والأهم هو في تدني إنتاجية المحاصيل الزراعية، كل تلك العوامل أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على السكان حول العالم.
ولكن ما زال الأمل قائم، والمجال ما زال مفتوح والتفاؤل واجب لكي نتدارك الأمر، ونقلل من سرعة ومعدل التغير المناخي والآثار المُترتبة عليه، في تنفيذ السياسات العلاجية الفعلية على أرض الواقع، وإلزام الدول المُصنعة في التخفيض الفعلي لمعدل الغازات الدفيئة المنبعثة، وسنّ القوانين في كافة دول العالم بضرورة التوجه لإنتاج الطاقة النظيفة والمتجددة، وإعادة التخطيط على المنظور القريب وطويل الآجل، لسياسة الصناعة والإنتاج والاستهلاك، والتوسع في زراعة المناطق وصيانة الغابات والمحميات الطبيعية، فهناك علاقة إيجابية بين الغطاء الأخضر والتنوع الحيوي، كذلك يجب الحفاظ على الأصول الوراثية الحيوانية والنباتية على حد سواء وعمل بنوك وراثية لذلك، كذلك استخدام وسائل النقل الجماعية المُوفرة لتقليل نسبة العوادم والازدحام، وتعزيز المعالجات الطبيعية، ليكون الأمر أكثر جدية وإلزام، فمطلوب من الجميع "دول ومنظمات وهيئات وافراد" وبشكل فوري أكثر من أي وقت مضى، لتحقيق التنمية المُستدامة ومواجهة التحديات البيئية بنوع من التكامل والتكافل والمنافع الـمشتركة بعيداً عن الاستقواء والأنانية والاستحواذ على أرث البشرية، وكذلك الاستهلاك الأمثل طبقاً للاحتياجات الفعلية من الغذاء والماء فهما كفيلان باستدامتها، فالهدّر والتبذير طريق الهلاك.
كذلك تعزيز البحث العلمي العميق عن المحاصيل والأصناف الزراعية الـمقاومة للجفاف والمُتحملة للحرارةِ والملوحةِ والتوسع في زراعتها، وعلى نفس السياق البحث عن الأصناف والحبوب الغير مُستغله في سلاسل إمداد الغذاء على مستوى الإنسان أو على مستوى الحيوان، كذلك يجب الحفاظ على التنوع الحيواني بما يضمن الاتزان البيئي، فلكل كائن على وجه هذه الأرض دورٌ حيوي قد لا نعلمه، لكن سنعرف أهميته عند اختفاءه أو انقراضه. 
كما يجب تفعيل أنظمة الإنذار المبكر والرصد والـمُحاكاة، أكانت "أعاصير أو عواصف أو فيضان أو موجة حرّ..،" حتى يتم الاستعداد لها ومواجهتها فقد يحدُّ من الاضرارِ والمخاطر بنسبةٍ كبيرةٍ وخاصة في الأرواح.
كما يعتبر التشجير داخل الـمــُدن الـمـُكتظة وعمل الـمُسطحات الخضراء وزراعة نواصي الشوارع ذو أهمية صحية وبيئية، فهناك دراسة علمية تقول "إن شجرة واحدة قد تعادل عمل مكيفان يعملان لمدة يوم كامل".!
ومن المعالجات التي يجب أتباعها في مواجهة التغيير المناخي هو في إعادة صياغة وتحوير طرق عمل البُني التحتية واستخدام المواد المُقاومة والطرق الهندسية الفنية بالتقنيات الحديثة، في المناطق المناسبة وتشمل التخطيط بنوعيه قصير وطويل الآجل ووضع قوانين البناء والارتفاع الأمثل للمباني، وكذلك الاستغلال الأمثل للمساحات، بالإضافة لنوعية المواد المستخدمة، ومساكن مزودة بمصائد الطاقة النظيفة، واستغلال مياه الأمطار الساقطة. 
تعزيز الاستثمار في إنشاء المسطحات الخضراء وإنتاج الطاقة النظيفة من الرياح والشمس وامواج البحار ومصبات السدود وغيرها، وكذلك الاستثمار في إنتاج الغذاء واستغلال المساحات الصغيرة كالبيوت المحمية وتعزيز الإنتاج الزراعي العضوي، للتقليل من المواد المصنعة كالأسمدة والمبيدات وغيرها المؤثرة على البيئة وعلى الصحة العامة، وسهولة تدوير المياه المستخدمة.
كما أن تفعيل النظام السُكاني الجماعي، وعمل الـمُجمعات السكنية في إطار الحدِّ من تناقص مساحة الرقعة الصالحة للزراعة، ولسهولة تطبيق نظام الترشيد المائي والكهربائي، وسهولة جمع ومعالجة وتدوير المخلفات.!
كما أن الأمن المَائي رديف للأمن الغذائي، فإن الاستخدام الأمثل للمياه وترشيد استخدامها وإعادة تدويرها والحصاد الأمثل لمياه الأمطار وعمل الخزانات المائية والسدود والحواجز، واستخدام أنظمة الري والتقنيات الحديثة والدقيقة في الزراعة كفيلة باستدامة ووصول الماء للسكان.
وختاماً تُصنف المنطقة العربية عُموماً ضمن المناطق الجافة وشبة الجافة على مستوى العالم وأكثرها حساسية  للتغيرات، "ومُعدل التغير فيها يزيد بنسبة ثلاثين في المائةِ عن المعدل العالمي"، وهو ما قد يزيد من حدة الصراعات، والتغيرات البيئية مُستقبلاً، ومن هذا المنطلق إن الـمُعالجة الجدّية ومواجهة التحديات ضرورة حتمية، مع ضرورة التكّيف مع المتغيرات، والاستغلال الأمثل لمواردنا في باطن الأرض وسطحها، وفي البحار وأعماقها، وسرعة تنفيذ الأحزمة الخضراء حول المدن، كما يجب تعزيز مفهوم المناخ والبيئة لدى الافراد أياً كان موقعه، للإحساس بالمسؤولية المشتركة، فالمسألة حياة وبقاء، فقد نستطيع شراء الغذاء، وشراء الماء، شراء أي شيء، لكن لن نستطيع شراء البيئة، فنحن فقط مسؤولون عنها والحفاظ عليها والذود عنها، لسلامتنا وحفاظاً على الأجيال المتعاقبة من بعدنا.
*PhD candidate
باحث في جامعة الملك سعود