آخر تحديث :الخميس-28 مارس 2024-09:01م

الإعاقة طاقة كامنة

الأربعاء - 05 أكتوبر 2022 - الساعة 06:38 م

خالد شرفان
بقلم: خالد شرفان
- ارشيف الكاتب


العظماء خلقوا عظماء لا شيء يقف أمامهم، ولا حواجز ولا موانع تعيقهم أو تحد من تقدمهم على مواصلة الهدف الذي اختاروه ورسموه سلفًا، ذُكرَ أن الشاعر العباسي المخضرم "بشار بن برد" (الكفيف) والذي يعده أدباء وشعراء عصره من فحول الشعراء العرب، لم تكن إعاقته حاجز لصوته أو تثبيطًا لقريحته الشعرية أو حجر عثرة بل العكس تمامًا، فقد تفجرت وتولدت لديه قدرات وملكات وعيون وينابيع شعرية جمه وهو بسن الشباب يصعب لأحدًا سدها أو تغيير مسارها، صاحب البيت المشهور والذي مطلعه (والأذن تعشق قبل العين احيانًا)، ثم تلاه من الرواد الذين فقدوا بصرهم وبقيت بصيرتهم وابدعو الشاعر أبو العلاء المعري مفكر و حاذقًا بالنحو، وفيلسوف عصره، رغم فقدانه لبصره  صغيرًا، ثم جاء بعدهما صاحب كتاب الأيام عميد الأدب العربي طه حسين والذي كان ركنًا أساسيًا في حقبة  التنوير في الفكر العربي دون منازع، ليلحقهم شاعر اليمن الكبير الضرير المرحوم عبدالله البردوني (ماذا أحدثك عن صنعاء يا أبتي).

كوكبة طويلة من "المبصرون" وقد تطول "اللستة" أن ذكرنا كل من تغلبوا وغلبوا الإعاقة، وسخروها واستخدموها لصالحهم، فقدوا ابصارهم لتبقى بصيرتهم خير شاهد على تسيدهم وتميزهم للموقف، واستمروا على مواصلة مشوارهم، واصبحوا شجرة وآرفة الظلال ونخلة باسقة أصلها ثابت وفرعها في السماء، لنقف ونحط رحالنا ونتحدث عن عملاقًا "لودري" آخر، وبردونيًا من نوع مغاير، ظهر في منتصف السبعينات عمل معلم بحقل التعليم، واعطى وقدم وبذل ومنح عصارة فكرًا تربويًا كامل الدسم حتى فقد عيناه، لم يساعده أحدًا على تخطي محنته، ولم يستسلم أو يذعن أو يتوقف، فقد عمدا على مزاولة ومواصلة مهنته السامية، ولايزال في الميدان حتى صبيحة يومنا هذا، يؤدي واجبه الوطني والإنساني بكامل طاقته وعلى أكمل وجه، وعزيمة لا تلين أو تعرف التقهقر رغم مشقة العمل عليه وبُعد المدرسة عن مكان سكنه، ليبقى صوته صدّاحًا فوّاح بزوايا وفصول المدرسة، يدهشك بأسلوب أدائه وطريقة طرحة للمحتوى أثناء الحصة الدراسية وبأسلوب علمي حديث، قد يعجز أن يوازيه أو يجاريه أحدًا من خريجي كليات اليوم، أستاذنا معلم لمادتي العلوم والرياضيات، جعل الطلاب يرغبون ويحبون و يتشوقون إليه كل صباح، لينهلوا من ينبوع العلم والقلم، طرقًا بسيطة وباسلوب شيق وممتع ومريح، واستراتيجيات عجيبة ومحببة وسهلة، جعل طلابه يحبون الرياضيات رغم نفور العامة بشكل عام عنها ليتلقوا نظريات وفرضيات وطرق حديث كالزلال الخالص والشهد الصافي.

فقد بصره منذُ عشرون عامًا ولم يمنعه ذلك في تأدية رسالته السامية وعلى مواصلة مشواره التدريسي، فلاشيء يقف أمامه ليحيله أو يميله أو يمنعه عن عمله، خمسة وأربعون عامًا قضاها عملاقنا بين الكتاب والسبورة والطبشور وكراريس الطلاب.

يعد من أشهر أعمدة التعليم بمديرية لودر ومن أعتى وأقوى مداميك العملية التعليمية بمديرية لودر، أنه الأستاذ والأب القدير والمربي الفاضل سالم أحمد الشتيمي، الذي يعد أشهر من نار على علم بين من زاملوه بحقب السبعينات والثمانينات والتسعينيات وبعد الألفية الجميع يعرفه، مخضرم عملاق  وصاحب إرادة فولاذية لاتلين أو تنصهر رغم إعاقته البصرية وامراضًا أخرى يشكو منها.

بعد أن فقد بصره وكبر سنه انهالت عليه الوعكات الصحية المتقطعة من كل حدبًا وصوب، فاضعفت من قواه الجسمانية والبدنية رغم عطاءه، رفض وامتنع إلا أن يقوم بعمله حتى الرمق الأخير له، مثله كأي مدرس آخر، حياة حافلة وزاخرة ومرصعة ببصمات لا تمحى، أمد الله بعمره.

حاليًا قد تجد موظفًا جديدًا عوده رطب ولين بالحقل التربوي له أقل من عشرة أعوام  وتجده يتضمر ويتأفف ويقل حماسه وينزعج من التعليم والتدريس ويصيبه اليأس والتراخي والخمول، على العكس من استاذنا سالم الذي لديه عطاء بلا حدود، ليس من فراغ إن قلنا إن الإعاقة طاقة كامنة.  

ختامًا وبما أننا بالعيد السنوي للمعلم فإنني انتهزها فرصة لأناشد وزارة التربية والتعليم والوزير مباشرة ثم الذي يليه والذي يليه بالمحافظة أبين وبالمديرية لودر الى تكريم محترم لهذا العملاق وهذه الهامة التربوية السامقة التي ظلت تعطي على مدى خمسة عقود تقريبًا دون كللا منها أو مللا، وإن لا يهمش أو يتم تجاهل تكريمه والنظر إليه نظرة تليق بما قدّم،  يستحق تكريم يحفظ له ولتاريخه التربوي نوعًا من التميز والانفراد!!!  لا شيء يعيق الشخص إلا ّ الإعاقة الفكرية، فتنطفئ مصابيح نظره إلا أن أستاذنا سالم كان شمسًا نورها لايغيب تضيء لمن حولها، أستاذًا استثنائي لن يتكرر أو تعيده السنون، فأرجو انصافه والوقوف إليه ليحس بأن الجميع بصفّه ولم يتخلوا عنه.

ليس الكفيف الذي أمس بلا بصر
إني أرى من ذوي الأبصار عميانا

انظر فما زالت تطل من الثرى صور تكاد لحسنها تتكلم

"ايليا ابو ماضي"