آخر تحديث :الأحد-05 مايو 2024-10:09م

الكل هنا خائف ومتوجس

الإثنين - 09 مارس 2020 - الساعة 09:53 م

مروان الجوبعي
بقلم: مروان الجوبعي
- ارشيف الكاتب


الحواجز الاسمنتية تنتشر على الطرقات وتعزل المناطق عن بعضها، وسيارات الإسعاف تنقل المشتبه بهم للعزل الصحي، والمعنيون يرفعون أهبة الأستعداد لمواجهة جائحة الوباء، والناس بهوس يثرثرون من شدة الرعب. كل شيء حدث هذا اليوم فجأة

الكل هنا خائف ومتوجس مما يحدث بالمدينة والذعر بادي على وجوههم، ورغم ذلك كله لا شيء يثير مخاوفي .. لم يعد هناك ما أخشاه، لقد تضاءلت احلامي إلى درجة أني أصبحت أفضل العزل عن البقاء بالحياة الطبيعية .. تعبت من ضجيج الحياة اليومية وأود أن أجد فرصة للعيش بإحدى غرف العزل دون أن اشوف أحد أو أكلم أو اسمع صوت أحد.

لا أود شيء سوى أدوات بسيطة للحياة، كغرفة متواضعة لا يدخلها أحد، غرفة خالية من أي شيء ما عدى قطعة فراش ألجأ إليها للنوم.

أود أن اهرب من ضجيج الواقع ووحشيته الى حياة العزلة الهادئة التي أشعر فيها بالقوة والتماسك .. أنا إنسان هش وضعيف جدا لا أقوى على أحتمال الواقع ويمكن لدمعة طفل أن تهزمني وتجعلني أتألم كثيرا. لذلك يكون في عوالم العزلة الأمر مختلف تماما .. فأنا هناك أصير إله، أصنع عوالم من الوهم، وأنصب المشانق للآخرين وأعيش وهم القوة رغم ضعفي وهشاشتي. 

هناك بعوالمي الداخلية التي أبنيها أعيد تشكيل العالم كما أريد ، أحاكم الدكتاتوريات التي لا أقوى على الوقوف أمام جبروتها، وند لند أحاور الإله بلا وسيط، وأشنق ابنائي الذي لا أجرؤ على جرح مشاعرهم بكلمة حينما يقفون امامي .. أشنقهم لأنني اشعر بالذنب تجاه وجودهم العبثي الذي يسبب لهم ولي الكثير من المعاناة.

بالعزلة أفعل كل شيء، يعجب الآخرين أو لا يعجبهم، أفعله دون أن اكون مطالب بأحترام قواعد وقيم واخلاق حددها الآخر حسب مزاجه ويريدني أن التزم بها. أجرب كل العقائد والأفكار ثم أخلعها وأرميها كالأحذية. أؤمن كما أشاء وأكفر بما أشاء، والله من بعيد يبارك ايماني وكفري دون أن يتدخل بشيء، ودون أن ينصب أحد البلهاء نفسه ليحاكمني على تفاهاتي وهو أكثر تفاهة مني. 

وفيها اسخر من كل شيء وألعن وأبصق دون أن اكون ملزم بالمجاملة كما يحدث يوميا بالحياة الواقعية .. وفيها أضحك ساخر من أولئك المدعين الذين يعتقدون أنهم اكثر شجاعة وحلم ووعي وثقافة وثقة بالنفس، أسخر منهم لأنهم يعتقدون أنهم أفضل من غيرهم وهم بالحقيقة يغلفون بهذه الادعاءات ضعفهم وتفاهتهم. ليس هذا وحسب بل هناك اشياء كثيرة أدركها بالعزلة، كثيرة جدا لا يسعفني الوقت لذكرها.

قبل فترة حاولت أن أصنع لي عزلة ولكنها لم تفي بالغرض إذ انني كنت أضطر صباح كل يوم على الذهاب إلى العمل ومقابلة الآخرين الذين كلما قابلتهم يوأدون عوالمي الداخلية ويفسدون الحياة فيها. أستأجرت حينها غرفة ولم أخبر عنها أحد .. كنت أمضي اليها يوميا وأشارك أحيانا طقوسي فيها مع الاخرين عبر الكتابة فقط. وبعد كل نص أكتبه كنت اقابل اليوم التالي أحد الاصدقاء فينظر إلي مشفقا ويحاول -بتذاكي أخرق- أن يتفحص سلامة صحتي العقلية. مسبقا كنت أدرك ما يريد الوصول إليه فأكذب عليه وأتظاهر القوة وأبالغ في مجاملته والسؤال عن أحواله .. كنت افعل كل ذلك بإدراك لأثبت أنني مازلت بكامل قواي العقلية ولأنني كنت مدرك تماما أن من شروط الصحة العقلية بالحياة الواقعية هي الكذب والنفاق والمجاملة!

لا أدري بالضبط إلى اين ستمضي الأمور وإلى أي مدى سيصاب الناس بالهلع والرعب في هذه المدينة؟ ولكن ماذا بعد أن تصل المدينة إلى هذا المستوى من الرعب .. فأنا اليوم كلما مددت يدي لإلقاء التحية على الأخرين لاذوا بالفرار وكأنني سفاح أشهر سيف لجز رقابهم!

 

#يوميات