آخر تحديث :الخميس-09 مايو 2024-09:06ص

موازنة بين شاعرين ..

السبت - 27 أبريل 2024 - الساعة 12:09 م

سالمين سعيد بنقح
بقلم: سالمين سعيد بنقح
- ارشيف الكاتب



سالمين سعيد بنقح

قد يتبادر إلى ذهنك أيها القارئ العزيز أنّ هذه الموازنة ستكون مثل موازنة الآمدي التي كانت بين شاعرين عظيمين هما أبو تمّام الطائي والبحتري، أو مثل موازنة الدكاترة زكي مبارك ولكنها ليست كالأولى ولا كالثانية بل هي حقيقة من وجهة نظري!
نعم هي كذلك بالنسبة لي وما وصلتُ إليها إلا بعد طول تفكرٍ في شعرِ كل من هذين الشاعرين.
لعل هذه المقدمة الباردة لم تكن مشوقة بما فيها الكفاية ولكنها كما قيل جهدُ المقل ثم إنني لستُ ممن يُجيد التشويق بل أحب الدخول في صلب الموضوع، الشاعر الأول الذي أنا بصدد الحديث عنه لا يكاد يمرُّ عليك شخص عربي لا يعرفه، فقد بلغت شهرةُ هذا الرجل الآفاق وسارت بقصائده الركبان ولكنه رغم هذه الشهرة الكبيرة والواسعة لا يُحسن نظم الشعر، بل إنّ جُلَّ شعرهِ إذا نظرنا إليه نظرة نقدية سنجده مجرد نظم بارد لا يسمن ولا يُغنِ من جوع! بل هو ساقطٌ فنيًا!
هذا الشاعر هو نزار قبّاني، نعم إنه نزار الذي يعرفه القاصي والداني والصغير والكبير في العالم العربي، ولكنّ شعره ليس بشيء مقارنة بالشاعر الثاني الذي سنتحدث عنه أيضًا في هذه المقالة، هناك عوامل كثيرة ساعدت في شهرة نزار قباني منها أنّ بعض قصائده تمّ غِنائها من قِبل فنانين معروفين في تلك الفترة فساهم هذا فيَّ شيوع ذكره وتصوّر الناس أنّ هذا الكلام شعرٌ عالي وما هو كذلك بل هو نوعٌ من النظم البارد الساذج الذي يُصيب المرءَ بالغثيان والصداع الشديد!، ولو فتشتَ دواوينه كلها لما استوقفت إلا بضع قصائد تكاد تُعدُّ على أصابع اليد الواحدة وهي قصائد ربما كان فيها شيءٌ من العلو الفني في بعضٍ منها وليس في كلها، أعلمُ أنّ كلامي هذا يبدو غريبًا وجريئًا من شخصٍ مغمورٍ مثلي ولكنّ هذا رأسي الذي أؤمنُ به وأعتقده، فقد عشتُ دهرًا من حياتي أرى بشاعرية نزار بل وأرى أنه أشعر أهل عصره وما قلتُ هذا إلا لجهلي آنذاك أما الآن وقد ظهر لي الحق وانقشعت عن عينيَّ تلك الغمامة السوداء رأيتُ أنهُ من حق الأمانة أن أنقض ما كنتُ أقوله وأُبرئُ ذمتي.
ومن باب إحقاق الحق سأذكر لك أيها القارئ قصائد نزار التي أظن أنها جيدة وقد يختلف معي البعض وقد يتفق وهذه سنة الحياة.
"نثرتُ فوق ثراكِ الطاهرَ الهدبا
فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا"

"هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والراحُ
إني أحبُّ وبعض الحُبِّ ذباحُ"

"يا تونسُ الخضراء جئتكُ عاشقًا
وعلى جبيني وردةٌ وكتابُ"
هذا ما وقفتُ عليه من جيد نزار أما الباقي فلا يُعتدُّ بأكثرهِ بل هو غثاءٌ كغثاءِ السيل.
أما الشاعر الآخر الذي نضعهُ في القارنة مع نزار فهو شاعرٌ لا يعرفهُ إلا قلّة من أهل الأدب بل يكادُ أن يكون مغمورًا لقلة تداول شعرهِ بين الناس، وعلى قلة شهرته فهو شاعرٌ فحل قلّما نجد له شبيهًا من شعراء عصره ومن قرأ شعره وتأمله عرف حقيقة ما أقول وعلم تمام العلم أنّ نزار لا يبلغ أن يكون أجيرًا عنده على حد تعبير أحدهم!
ولو أنني استوفيت كل عبارات المدح والثناء على هذا الرجل لما أنصفته ولكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق كما تقول العرب.
أما وقد تفكرتَ كثيرًا وأعملتَ عقلك في محاولة مستميتة لمعرفة هذا الشاعر فإنني سأحدثك عنه بإيجازٍ لتكمل عني ما بدأته أنا إنه الشاعر الكبير محمد سليمان الأحمد الذي اشتهر بلقب (بدوّي الجبل) هذا المناضل السوري الذي عاش حياته كلها يحمل همّ وطنه ويحلم بالخلاص من الاحتلال الفرنسي له، وكان قامة سياسيةً لا يستهان بها وهو من رواد المدرسة الكلاسيكية في الشعر فلم يركب الموجة كما فعل غيره من الشعراء مع أنه كان قادرًا على ذلك بل آثر التمسك بما تعارفت عليه العرب من أساليب في كتابتها للشعر فأخرج لنا دررًا هي أثمن ما يُقرأ ويحفظ
فبالله عليك أيها القارئ كيف تُقدّم من يقول:
"إني خيرتك فاختاري، ما بين الموت على صدري
أو فوق دفاتر أشعاري"
على من يقول:
"ما للمنيّة أدعوها و تبتعدُ
أمرّ من كل حتفٍ بعضُ ما أجدُ
ظمآن أشهدُ ورِد الموت عن كثبٍ
و الواردون أحبّائي و لا أردُ"
كيف نقدّمُ نزارًا على هذا الشاعر الخنذيذ الذي بلغ بشعرهِ ما لم يبلغهُ أحدٌ مثله، ولولا خشية الإطالة لعرضتُ لك كل شعره العالي وأحسبُ أنّ شعره كله عاليًا وجيدًا، ولكن هنا بعض قصائده التي لا يُعذرُ أحدٌ في الجهل بها:
جلونا الفاتحين:
"تمنّى الرّكب وجهك و الصباحا
فجنّ اللّيل من فجرين لاحا
وحنّ إلى ظلالك عبد شمس
يريح شجونه ظمأى طلاحا"
غُربة الروح:
"أترعي الكأس أدمعا و رحيقا
حقّ بعض الهموم أن لا نُفيقا
سَلِمَ الجمر لي و عاش بقلبي
أريحيّ اللّهيب عذبا أنيقا"
البلبل الغريب:
"سلي الجمر هل غالى وجنّ و عذّبا
كفرت به حتّى يشوق و يعذبا
و لا تحرميني جذوة بعد جذوة
فما اخضلّ هذا القلب حتّى تلهّبا
و ما نال معنى القلب إلاّ لأنّه
تمرّغ في سكب اللّظى و تقلّبا
هبيني حزنا لم يمرّ بمهجة
فما كنت أرضى منك حزنا مجرّبا!!"
وهذه من عوالي شعره ومن قرأها عرف لماذا هي عالية وجميلة جدًا.
أما غُرّة قصائده وأجملها من وجهة نظري فهي هذه القصيدة التي سمّاها: "إني لأشمتُ بالجبّار" وقصتها باختصار أنّ فرنسا عندما احتلت سوريا أحدثت في أهلها أنواعًا كثيرةً من الظلم والعذاب ونكلت بهم أيما تنكيل ثم شاءت عدالة الله أن تشرب فِرنسا بكسر الفاء من نفس الكأس التي سقت بها أهل سوريا فسامهم "هتلر" سوء العذاب عندما دخل بجيشهِ العرمرم باريس فكتب بدوي الجبل هذه القصيدة وكان لسان حاله في كل بيتٍ منها ذوقوا ما أذقتمونا إياه وهذه بتلك.
يا سامر الحيّ هل تعنيك شكوانا
رقّ الحديد و ما رقّوا لبلوانا
خلّ العتاب دموعا لا غناء بها
و عاتب القوم أشلاء و نيرانا
آمنت بالحقد يذكي من عزائمنا
و أبعد الله إشفاقا و تحنانا
إلى أن يقول:
سمعت باريس تشكو زهو فاتحها
هلاّ تذكّرت يا باريس شكوانا
و الخيل في المسجد المحزون جائلة
على المصلّين أشياخا و فتيانا
و الآمنين أفاقوا و القصور لظى
تهوي بها النّار بنيانا فبنيانا
رمى بها الظالم الطاغي مجلجلة
كالعارض الجون تهدارا و تهتانا
إلى آخر القصيدة، فاقرأ رحمك الله هذه القصيدة الفريدة وقل لي أنزارٌ أشعر أم بدوّي الجبل، لا ريب أنك ستقول أنّ الثاني هو أشعرُ بلا شك.