آخر تحديث :الإثنين-20 مايو 2024-11:31ص

نفثات مصدور

الأحد - 17 مارس 2024 - الساعة 01:51 ص

سالمين سعيد بنقح
بقلم: سالمين سعيد بنقح
- ارشيف الكاتب


ما من أمرٍ أصعبُ عليَّ من التفكير في موضوعٍ معين للكتابة عنه، لأنّ ذلك يتطلب إعمال العقل والفكر والبحث والتقصي عن المواضيع المرتبطة بما سأكتب عنه، لذلك أُفضل أن أبقى على طريقتي الارتجالية في الكتابة، لأنني لا أتكلف بل أكون على سجيتي بعيدًا عن الرتابة والتصنع.
وحديثي اليوم لن يخرج عن إطار الشعر الذي ما زلتُ أهيمُ في واديهِ منذ أمدٍ بعيد، قبل الشروع في كتابة هذه المقالة تقافزت إلى ذهني عدة أفكار للكتابة ولكنني أحببتُ أن أجعلها عن العشق والعشاق؛ فهناك علاقة روحية كبيرة تربطني بهولاء العشاق الذين دخلوا إلى التاريخ من أوسعِ أبوابه، كيف لا ونحن ما زلنا إلى هذه اللحظة نردد قصائدهم وستظل الأجيال تردد هذه القصائد التي كُتبت بقطرات الدموع، وفي كل حرفٍ منها تسيل نفسٌ مُعذبة ومستهامة بمن تحب، فرحم الله أولئك الذين لولا عذابهم الذي عاشوه ما وصل إلينا هذا الكم الهائل من القصائد والأبيات التي تتملك لبَّ القارئ والسامع.
حديثي اليوم سيكون عن واحدٍ من الشعراء العشاق الذين ما زلنا نردد قصائدهم منذُ زمنٍ بعيد، كيف لا وهو جميل بن معمر الذي عُرف باسم جميل بُثينة، وبثينة هذه هي التي أحبها وعشقها وأخذت بتلابيب قلبه فخلدها جميلٌ بقصائد كثيرة هي من الجمال في المكان العالي، يقول في بيتين جميلين له يُبيّن فيهما الموقف الذي قاد المودة بينهما:
وَأَوَّلُ ما قادَ المَوَدَّةَ بَينَنا
"بِوادي بَغيضٍ يا بُثَينَ سِبابُ
وَقُلنا لَها قَولاً فَجاءَت بِمِثلِهِ
لِكُلِّ كَلامٍ يا بُثَينَ جَوابُ"
لكل كلامٍ يا بثينُ جواب، هذا الشطر أُخذ منه المثل الشعبي المعروف: اللي يدق الباب يلقى الجواب.
والجدير بالذكر هنا أنّ جميلًا هذا من بني عُذرة، وهي قبيلة عربية يعود نسبها إلى قضاعة، ولكثرة من عُرف منهم بالعشق أصبحت العرب تُطلق على كل عاشقٍ عشقًا عفيفًا عُذريًّا نسبة إليهم، ويقال أنّ السبب في ذلك أنّ بني عُذرة هولاء إذا أحبَّ الرجل منهم تمكن منه الحب والهيام وما زال به حتى يُرديه حتفه ورحم الله الأول إذ قال:
"مَساكين أهل العِشق ما كُنت أشتَري
جَميع حَياة العاشِقينَ بِدرهمِ"
ومما يجدر الذكر به هنا قصيدة جميل التي تعتبر غُرّة قصائده وأجملها على الإطلاق من وجهة نظري المتواضعة وهي القصيدة الداليّة وانظر بارك الله فيك هذا المطلع الجميل الذي لخص الكثير من الأشياء في بيتٍ واحد:
أَلا لَيتَ رَيعانَ الشَبابِ جَديدُ
وَدَهراً تَوَلّى يا بُثَينَ يَعودُ
هو لا يتمنى إلا أن يعود له شبابه وتعود تلك الأيام الجميلة التي جمعته بمحبوبته، واستخدامه لكلمة دهر هنا لا يقصد بها الدهر الذي هو بمعنى السنة وإنما المقصد كل الأيام التي جمعتهما معًا.
ثم إنّ كان سينسى كل شيء حدث معه إلا أنّ هناك مواقف لا يمكن للعقل أن ينساها وفي هذا يقول:
وَما أَنسَ مِنَ الأَشياءِ لا أَنسَ قَولَها
وَقَد قُرِّبَت نَضوي أَمِصرَ تُريدُ
وَلا قَولَها لَولا العُيونُ الَّتي تَرى
لَزُرتُكَ فَاِعذُرني فَدَتكَ جُدودُ
وفي حقيقة الأمر هذه القصيدة من أجمل ما يمكن قراءته في الأدب العربي على الإطلاق؛ وذلك لما فيها من الأبيات التي لخصت واقع هذا العاشق المستهام، وأعترفُ أنني أعاود قراءتها بين الفينة والأخرى؛ وذلك لأنني أجدُ فيها ما يُسلّي قلبي، وكلما مرَّ بي بيتٌ أليمٌ تألمتُ لألمِ جميل وكأنّ ما بهِ بي!
وأختم حديثي بهذا البيت الذي يبعث في نفسي الأمل كلما قرأته:
وَقَد تَلتَقي الأَشتاتُ بَعدَ تَفَرُّقٍ
وَقَد تُدرَكُ الحاجاتُ وَهيَ بَعيدُ
وهذا يشبه قول المجنون:
"وَقَد يَجمَعِ اللَهُ الشَتيتَينِ بَعدَ ما
يَظُنّانِ كُلَّ الظَنِّ أَلّا تَلاقِيا"
وأخيرًا لا بد لك أيها القارئ من مرورٍ على هذه القصيدة الجميلة، تمعّن فيها جيدًا وأطل المكوث عليها فإنّ فيها من الكنوز المدفونة الشيء الكثير.