آخر تحديث :الإثنين-20 مايو 2024-01:47م

من مُشوّقات العرب ..

الأحد - 18 فبراير 2024 - الساعة 02:56 م

سالمين سعيد بنقح
بقلم: سالمين سعيد بنقح
- ارشيف الكاتب


تميّزت الأمة العربية عن غيرها من الأمم بأنها كانت أمةً تمتلكُ حِسًّا مرهفًا رغم ما امتازت به طبيعتهم الخشنة بحكم التضاريس الجغرافية التي تؤثر على طبائع البشر
فالجزيرةُ العربية معروفة بمناخها الجاف والحار وتضاريسها الوعرة، إلا أنّ الانسان العربي كان ذا إحساسٍ مرهف وعواطف جيّاشة، فلم تمنعه طبيعة أرضه من أن يكون ذا إحساسٍ مرهف وقلبٍ شجيٍّ تحسبه سيذوب من الرقة، وإنك لتعجب كيف لهذا العربي أن يكون بهذا التناقض في بعض المرات فعلى سبيل المثال لدينا عنترة بن شداد هو الذي يقول:
هلاّ سألتِ الخيل يا ابنة مالكٍ
إن كنتِ جاهلةً بما لم تعلمِ
يخبركِ من شهد الوقيعة أنني
أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنمِ
وفي نفس القصيدة يقول:
ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ
مني، وبيضُ الهندِ تقطرُ من دمي
فوددتُ تقبيل السيوف لأنها
لَمعت كبارقِ ثغركِ المتبسمِ!
نعم هذا هو العربي مليءٌ بالأضداد، ولكنه يعرفُ جيدًا متى يلينُ ومتى يقسو.
وأنا هنا أحاول جاهدًا أيها القارئ الكريم أن أسلط الضوء على بعضٍ مما كان يثير الشوق في نفس هذا العربي.

من مشوقات العرب التي كانت تُهيّج أشواقهم وتشعرهم بالحنين إلى أوطانهم البرق والمطر،فكان الرجل العربي إذا رأى المطر يأخذ به الشوق وتزدادُ صبابته لا سيّما إذا ما كان خارج بلاده ومرابع قومه ولكنّه إذا رأى البرق والمطر يذهبُ نحو بلاده يستشفي بذلك وربمّا خفف هذا من وجدهِ وحنينه وفي هذا المعنى يقول سيّد الشعراء امرؤ القيس:
نشيمُ بروق المزن أين مصابه
ولا شيء يشفي منكِ يا ابنة عفزرا!
وقال رجلٌ من بني نُمير كان قد أسَرهُ الحجاج بن يوسف:

ألا يا سنَا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمَى
لهَنَّكَ من بَرْقٍ عليَّ كَرِيمُ
لَمعتَ اقتداءَ الطيرٍ، وَالقوْمُ هُجّعٌ
فَهَيَّجتَ أحَزاناً، وَأنتَ سَليمُ
فَبِتُّ بحَدِّ المِرْفَقَينِ أشِيمُهُ
كَأني لبَرْقٍ بالسّتَارِ حَميمُ
فهلْ من مُعيرٍ طَرْفَ عَينٍ خَليَّةٍ؟
فإنسَانُ عَينِ العَامِرِيِّ كَليمُ
رَمَى قَلبَهُ البرْقُ المُلألئُ رَميَةً
بذكرِ الحِمَى وَهناً فصارَ يَهيمُ
والشواهدُ في هذا كثيرة لولا خوفي من أن تملَّ أيها القارئ لكتبتُ كل ما أعرفه في هذا الباب.
ومن مشوّقات العرب أيضًا هديلُ الحمامِ وهديره،كان صوت الحمام يبعثُ في نفس العربي الشوق والحنين ويزيدُ من صبابته قال أبو فراسٍ الحمداني وهو في الأسر:
أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ
أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي
مَعاذَ الهَوى ماذُقتِ طارِقَةَ النَوى
وَلا خَطَرَت مِنكِ الهُمومُ بِبالِ

وقال ابن الدُمينة في داليته الجميلة:
أَإِن هَتَفَت وَرقاءُ في رَونَقِ الضُحى
عَلى فَنَنٍ غَضِّ النَباتِ مِنَ الرَندِ
بَكَيتُ كَما يَبكي الحَزينُ صَبابَةً
وَذُبتُ مِنَ الحُزنِ المُبَرِّحِ وَالجَهدِ

ومن الأبيات الجميلة جدًا أبياتُ جحدر بن مالك الحنفي وقد كان صعلوكًا شهيرًا في زمنِ الحجاج بن يوسف الثقفي وله قصة معروفة معه، وموضع الشاهد هذه الأبيات التي تناسب ما ذكرناهُ آنفًا:
ومما زادني فازددتُ شوقًا
بكاءُ حمامتينِ تجاوبانِ
تجاوبتا بلحنٍ أعجميٍّ
على غُصنينِ من غَربٍ وبانِ
فأسبلتُ الدموعَ بلا احتشامٍ
ولم أكُ باللئيمِ ولا الجبانِ

ومن المشوقات أيضًا ريح الصبا "وقد قيل في رياح الصبا أنها إذا استنشقها الإنسان المهموم، وخاصة في ساعات الصباح الأولى فانه يشعر بعدها بالنشاط والحيوية وسعة الصدر قال مجنون ليلى:
أيا جبلي نعمان باللهِ خليّا
نسيم الصبا يخلص إليّ نسيمها
فان الصبا ريح إذا تنسمت
على نفس مهموم تجلت همومها

وفي مطلع قصيدة ابن الدُمينة ذكرها فقال:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجدِ؟
لقد زادني مسراك وجدًا على وجدِ!

وفي الصبا قلتُ أنا:
إذا هبّت رياحُ أبي عقيلٍ
يزيدُ الشوقُ في صدري اشتعالا
فدتك الروح من خلٍ بعيدٍ
خليلُكَ يشتهي منك الوصالا
ومن مسمياتها أيضًا أي الصبا "رياح أبي عقيل" نسبةً إلى الشاعر لبيد بن ربيعة رضي الله أحد أصحاب المعلقات.
والحديث في هذه الأمور يطول والشواهد عليه كثيرة أكثر من أن يحصرها مقالٌ واحد لربما كانت تحتاج إلى عدة مقالات وهذا الموضع موضعُ إيجازٍ لا إطناب،فهناك أيضًا الرسوم وأطلال الديار كانت كذلك مما يُهيّج أحزان الانسان العربي الذي كانت عاطفته تغلبه في كثيرٍ من الأحيان،ليس في الأرض أمة كالأمة العربية كما ذكرتُ آنفًا
دمتم بود.