آخر تحديث :الإثنين-20 مايو 2024-12:41م

مع إيليا أبو ماضي ..

السبت - 03 فبراير 2024 - الساعة 12:18 م

سالمين سعيد بنقح
بقلم: سالمين سعيد بنقح
- ارشيف الكاتب


سالمين سعيد بنقح

كان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين رحمه الله مولعًا بأبي العلاء المعرّي الشاعر المعروف وكتب عنه كتابه الشهير "مع أبي العلاء في سجنه" وهو كتاب يسلط الضوء على جانبٍ من جوانب حياة هذا الشاعر الكبير.
وقد كان يرى طه حسين أنّ بينه وبين أبي العلاء تشابهٌ كبير من عدة جوانب أبرزها أنّ كلًا منهم كان أعمى البصر.
لعل هذه المقدمة القصيرة أوهمتك عزيزي القارئ أنني سأتحدث عن أبي العلاء ولكنَّ الأمر خلاف ذلك تمامًا سآخذك اليوم في رحلة قصيرة مع شاعرٍ آخر من مدرسة أخرى مختلفة لكنه ليس عاديًا، استطاع أنْ يملك قلوب الناس بشعره الرائع الذي سلك فيه مسلك الحكمة في مواضع كثيرة.
وقد عرفتُ هذا الشاعر منذ مدة طويلة لكنني لم أكتب عنه من قبل، وقد طلب مني من لا أرفضُ له طلبًا أن أكتب عن هذا الشاعر فهأنذا أحاول جاهدًا أن أصوغ شيئًا يستحق القراءة في حق هذا الشاعر الكبير.

لم يكن إيليا أبو ماضي شاعرًا عاديًا مثل بقية الشعراء الذين كانوا في عصره وتفوّق على بعضهم وبلغ بشعره مبلغًا عظيمًا؛ لأنه كان يخاطب الإنسانية جمعاء بغض النظر عن الدين واللون، فهو شاعرٌ إنساني نهج على هذا النهج وسار عليه حتى قضى نحبه.
ولد في لبنان لعائلة بسيطة فهو لم يولد وفي فمهِ ملعقةٌ من ذهب بل كان من ميسوري الحال وكانت ولادته في 1889م للميلاد في موطنه الأم لبنان ثم بعد ذلك هاجر إلى مصر ومنها هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية ومن هناك كانت انطلاقته الكبرى، فانضم إلى الرابطة القلمية التي أسسها الأديب اللبناني جبران خليل جبران والأديب ميخائيل نعيمة.

كان أبو ماضي ذكيًا وفطنًا للغاية وظهر ذلك عليه جليًا عندما كان يكتب في مجلة الزهور وهو لم يتجاوز سن الثالثة والعشرين، فقد كان شابًا عصاميًا صنع طريقه بنفسه ووضع لنفسه مكانًا بين النجوم الزاهرة في تلك الحقبة.
ولشعرِ أبي ماضي وقعٌ في نفس كل من يقرأه ولا يكاد القارئ له أن يفلت من حباله؛ وذلك لرهافةِ حسه وأسلوبه الرائق والرشيق، فمن مِنّا لم يقرأ رائعته:
أَيُّهَذا الشاكي وَما بِكَ داءٌ
كَيفَ تَغدو إِذا غَدَوتَ عَليلا
إِنَّ شَرَّ الجُناةِ في الأَرضِ نَفسٌ
تَتَوَقّى قَبلَ الرَحيلِ الرَحيلا
وَتَرى الشَوكَ في الوُرودِ وَتَعمى
أَن تَرى فَوقَها النَدى إِكليلا
هُوَ عِبءٌ عَلى الحَياةِ ثَقيلٌ
مَن يَظُنُّ الحَياةَ عِبءً ثَقيلا
هذه القصيدة من أروع قصائده التي خاطب بها النفس البشرية وحظها على أن تسمو لتكون نفسًا ساميةً وراقية
وخاطب تلك النفوس العليلة التي تتذمر من العيش وترى الحياة بلونٍ واحد وهو اللون الأسود، فهولاء لا يستحقون أن يكونوا معدودين في زُمرة البشر؛ لأنهم لم يقدروا النعمة التي هم فيها.
فجمالُ كل شيءٍ ينبعُ من داخل الإنسانِ أولًا ثم ينعكسُ هذا الجمال على الأشياء من حوله، وهذه القصيدة فيها نفحةٌ من نفحات الصوفية برأيي؛ لأنها تركز على جانب تهذيب النفس وتهذيب الأخلاق وهذا بابٌ واسع وطويل ليس هذا مجال الخوض فيه، ومن تتبع شعر إيليا سيجد فيه نفحات كثيرة من هذا النوع على الرغم من كون الشاعر مسيحي بحت، ولكنه بلغ بشعره ما عجز عنه كثيرٌ من الشعراء وهذا يحسب له، ويثبت ما ذكرته هذا البيت من قصيدته هذه:
وَالَّذي نَفسُهُ بِغَيرِ جَمالٍ
لا يَرى في الوُجودِ شَيئاً جَميلا
وبين الشاعر والطبيعة علاقة متينة قلما تجدها عند شاعرٍ آخر، وهذا يدل على أنه مغرقٌ في التفكر من حوله ويراقب الأشياء بدقه.
"أَنتَ لِلأَرضِ أَوَّلاً وَأَخيراً
كُنتَ مَلكاً أَو كُنتَ عَبداً ذَليلا
لا خُلودٌ تَحتَ السَماءِ لِحَيٍّ
فَلِماذا تُراوِدُ المُستَحيلا"
هذانِ البيتان ذكراني بفكرةٍ مقاربة وردت عند أبي المعرّي الشاعر المعروف في قصيدته الدالية الشهيرة
"غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي"
التي قالها وهو في سنٍ صغيرة ربما كان في سن إيليا عندما بدأ مشواره في الكتابة:
انظر هنا عزيزي القارئ أليس بينهما علاقة تشابه كبيرة:
"صَاحِ هَذِهْ قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ
ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ
أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ"

ومن قصائده الجميلة تلك القصيدة التي يحاول فيها أن يخبرك بأنه مهما حصل معك لا بد أن تتمسك بجذوةٍ من الأمل وأن تبتسم رغم الأحداث من حولك فلا شيء يستحق أن تحزن نفسك من أجله، فهذه الحياة رغم قسوتها في بعض الأحيان إلا أنّ فيها أملًا لا بد أن نحيا في سبيله مهما كسرتنا الظروف:
قالَ السَماءُ كَئيبَةٌ وَتَجَهَّما
قُلتُ اِبتَسِم يَكفي التَجَهّمُ في السَما
قالَ الصِبا وَلّى فَقُلتُ لَهُ اِبتَسِم
لَن يُرجِعَ الأَسَفُ الصِبا المُتَصَرِّما
وقد قلتُ بيتًا في هذا المعنى:
"ولو كان البكاءُ يفيدُ حيًّا
بكيتُ لكي يعودَ ليَ الحبيبُ"

إنّ شعر إيليا في مواضع كثيرة منه يحث النفس على الأمل والسعي والرقي لكي تكون جديرة بأن تكون نفسًا نقية وطاهرة، ويحاول أن يزرع فيها كل صفةٍ حميدة من شأنها أن تجعلها نفسًا سامية وراقية.
ثم اختصر الحياة كلها في هذين البيتين إذ قال:
أَيقِظ شُعورَكَ بِالمَحَبَّةِ إِن غَفا
لَولا الشُعورُ الناسُ كانوا كَالدُمى
أَحبِب فَيَغدو الكوخُ كَوناً نَيِّراً
وَاِبغُض فَيُمسي الكَونُ سِجناً مُظلِما
فالحب هو الذي يجعل الإنسان يعيش بسعادة وهناء بعيدًا عن الكدر والضجر.
وخلاصة القول إنّ هذا الشاعر كان شاعرًا استثنائيًا عرف سر الحياة وعرف كيف يعيشها بسعادة بعيدًا عن ما يكدر صفوها، وسعى بكل ما أوتيَ من فصاحة وشعر أن يبث الإيجابية في كل مكان، فأخرج لنا هذه القصائد التي لا تمر مرور الكرام على كل من يسمعها أو يقرأها؛ لأنها تخاطب الروح وتلجُ إلى النفوس قبل الآذان لذلك سيبقى شعر هذا الرجل ما بقيت السماوات والأرض، وسيبقى الناس يرددون قصائده لِمَ فيها من قيمٍ أخلاقية عالية، فالشاعر كما قال عن نفسه في قصيدة أخرى:
حرٌ ومذهب كل حرٍ مذهبي
ما كنتُ بالغاوي ولا المتعصبِ
وبالإضافة إلى ذلك فهو منصف ويحب العدل ولو كان من عدوه:
"وَأُحِبُّ كُلَّ مُهَذَّبٍ وَلَو اَنَّهُ
خَصمي وَأَرحَمُ كُلَّ غَيرِ مُهَذَّبِ
يَأبى فُؤادي أَن يَميلَ إِلى الأَذى
حُبُّ الأَذِيَّةِ مِن طِباعِ العَقرَبِ"
فمن كانت نفسه بهذا النبل لا شك أنه رجلٌ عرف الحياة وعرف حقيقتها وعرف كيف يعيش؛ لأنه أرتاح واستراح ولم تطوَ ضلوعه على حقدٍ ولا بغضٍ لأحد.