آخر تحديث :الإثنين-20 مايو 2024-02:24م

علاقة المتنبي بممدوحيه ..

السبت - 20 يناير 2024 - الساعة 02:05 م

سالمين سعيد بنقح
بقلم: سالمين سعيد بنقح
- ارشيف الكاتب


منذ مدةٍ كنتُ مهتمًا بالبحثِ في شعر المتنبي وهذا البحث ليس بحثًا في بلاغة الشعر وجودته؛وإنما هو بحث في زاوية أخرى من زوايا هذا الشاعر العظيم وبعد تفكيرٍ طويل وبحثٍ في خبايا شعره توصلتُ إلى بعض الأمور التي قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة.
إنّ القارئ لشعرِ أبي الطيب سوف يجد شعره ينقسم إلى قسمين رئيسيين وهما:
١-شعرٌ صادق لا مراء فيه
٢-شِعرٌ قاله مجاملةً ولم يكن مقتنعًا باستحقاق الممدوح له.
أما الأول فينطبق على شعره ومدائحه لممدوحه الذي مكث معه تسع سنوات وهو سيف الدولة الحمداني،وفي الحقيقة إنّ قصائده في سيف الدولة من أجمل وأعلى ما كتب أبو الطيّب فقد كانت قصائدَ امتازت بالجودة العالية وصدق المشاعر؛ولأنه كان يرى في سيف الدولة ذلك الحاكم العربي الذي سيعيد أمجاد العرب؛ولذلك كان المتنبي يحبه حبًّا جمّا.
وله في سيف الدولة قصائد غُرر هي من العلو بمكان ولعلنا هنا نضع بين يديك عزيزي القارئ أنموذجًا من هذه القصائد وكما قيل: ما لا يدرك كُله لا يترك جُله.
وقد أطلق بعض النقاد على تلك القصائد التي مدح بها سيف الدولة اسم "السيفيّات".
ولعلنا هنا نطرح بعض مطالع سيفيّاتهِ الخالدة:
لِكُلِّ اِمرِئٍ مِن دَهرِهِ ما تَعَوَّدا
وَعادَةُ سَيفِ الدَولَةِ الطَعنُ في العِدا
وَأَن يُكذِبَ الإِرجافَ عَنهُ بِضِدِّهِ
وَيُمسي بِما تَنوي أَعاديهِ أَسعَدا
وفيها أبياتٌ سرت بها الركبان منها:
وَمَن يَجعَلِ الضِرغامَ بازاً لِصَيدِهِ
تَصَيَّدَهُ الضِرغامُ فيما تَصَيَّدا
وكذلك:
وَما قَتَلَ الأَحرارَ كَالعَفوِ عَنهُمُ
وَمَن لَكَ بِالحُرِّ الَّذي يَحفَظُ اليَدا
إِذا أَنتَ أَكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ
وَإِن أَنتَ أَكرَمتَ اللَئيمَ تَمَرَّدا
وَوَضعُ النَدى في مَوضِعِ السَيفِ بِالعُلا
مُضِرٌّ كَوَضعِ السَيفِ في مَوضِعِ النَدى
وكذلك:
وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَلائِدي
إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً
أَجِزني إِذا أُنشِدتَ شِعراً فَإِنَّما
بِشِعري أَتاكَ المادِحونَ مُرَدَّدا
وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني
أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى
تَرَكتُ السُرى خَلفي لِمَن قَلَّ مالُهُ
وَأَنعَلتُ أَفراسي بِنُعماكَ عَسجَدا
وَقَيَّدتُ نَفسي في ذَراكَ مَحَبَّةً
وَمَن وَجَدَ الإِحسانَ قَيداً تَقَيَّدا
وأيضًا من أشهر سيفيّاته ميميتهِ الخالدة التي ستظلُ تُروى إلى. قيام الساعة، وسيظل الناس يرددونها ما دامت السماوات والأرض كيف لا وهي:
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ
وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها
وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
يُكَلِّفُ سَيفُ الدَولَةِ الجَيشَ هَمَّهُ
وَقَد عَجَزَت عَنهُ الجُيوشُ الخَضارِمُ
وَيَطلِبُ عِندَ الناسِ ما عِندَ نَفسِهِ
وَذَلِكَ مالا تَدَّعيهِ الضَراغِمُ
وكذلك قصائده في أبي العشائر كان فيها من الصدق الشيء الكثير،وشعرهُ في أبي شُجاعٍ فاتك ومرثيته الشهيرة التي قالها بعد وفاته،وكذلك قصائدهُ الأمير البدر بن عمّار بن اسماعيل امتازت بالصدق لأنّ الأوّل كان عربيًا ولا يقلُ شأنًا عن بني حمدان وكان يحبه كثيرًا ونظم فيه قصائد في غاية الجمال والروعة.
ومن أشهر قصائدهِ في البدر بن عمّار قصيدته النونية التي مطلعها:
الحبُّ ما منع الكلام الألسنا
وألذُّ شكوى عاشقٍ ما أعلنا
إلى قوله:
وَوَقَفتُ مِنها حَيثُ أَوقَفَني النَدى
وَبَلَغتُ مِن بَدرِ اِبنِ عَمّارِ المُنا
لِأَبي الحُسَينِ جَدىً يَضيقُ وِعائُهُ
عَنهُ وَلَو كانَ الوِعاءُ الأَزمُنا
يَتَفَزَّعُ الجَبّارُ مِن بَغَتاتِهِ
فَيَظَلُّ في خَلَواتِهِ مُتَكَفِّنا
أَمضى إِرادَتَهُ فَسَوفَ لَهُ قَدٌ
وَاِستَقرَبَ الأَقصى فَثَمَّ لَهُ هُنا
يَجِدُ الحَديدَ عَلى بَضاضَةِ جِلدِهِ
ثَوباً أَخَفَّ مِنَ الحَريرِ وَأَليَنا
وهي قصيدةٌ في غايةِ الحُسن الجمال، وعرّض في نهايتها بالوزير ابن كُروّس وزير البدر بن عمّار.
وكذلك القصيدة اللاميّة التي مطلعها:
في الخَدِّ أَن عَزَمَ الخَليطُ رَحيلاً
مَطَرٌ تَزيدُ بِهِ الخُدُودُ مُحولا
يا نَظرَةً نَفَتِ الرُقادَ وَغادَرَت
في حَدِّ قَلبي ما حَيِيتُ فُلولا
حَدَقُ الحِسانِ مِنَ الغَواني هِجنَ لي
يَومَ الفِراقِ صَبابَةً وَغَليلا
حَدَقٌ يُذِمُّ مِنَ القَواتِلِ غَيرَها
بَدرُ بنُ عَمّارِ بنِ إِسماعيلا
وهنا ملحظٌ مهمٌ للغاية وهو ما يسميه أهل النقد "بحسن التخلص" وهو الانتقال من غرضٍ إلى آخر بنفس مستوى العلو والبلاغة وقد جاوز أبو الطيب رحمه الله القنطرة هنا وبلغ الغاية، والقصيدة جميلة جدًا ولها قصة مشهورة نذكرها بإيجاز، يقال كان هناك أسدٌ اعترض طريق الناس وعطل مصالحهم، ولما سمع الأمير البدر بن عمّار بالخبر انطلق من حينه حتى أتى مكان الحدث وعندما رآه الأسد هجم عليه، ولم يستطع الأمير أن يستل سيفه من غمده فباشرهُ بالسوط فقتله!
صوّر المتنبي هذا المشهد كأحسنِ ما يكون التصوير فقال:
أَمُعَفِّرَ اللَيثِ الهِزَبرِ بِسَوطِهِ
لِمَنِ اِدَّخَرتَ الصارِمَ المَصقولا؟!
سَبَقَ اِلتِقاءَكَهُ بِوَثبَةِ هاجِمٍ
لَو لَم تُصادِمُهُ لَجازَكَ ميلا
خَذَلَتهُ قُوَّتُهُ وَقَد كافَحتَهُ
فَاِستَنصَرَ التَسليمَ وَالتَجديلا
والقصيدة فيها من الأبيات السائرة الشيء الكثير، ولولا خشية الإطالة عليك عزيزي القارئ لفصّلنا فيها أكثر ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعُنق.
أما بالنسبة للقسم الثاني من شعر المتنبي،فهي تلك القصائد التي نظمها وهو يعلم ربما في قرارة نفسه أنّ الذي أمامه لا يستحق كل هذا الثناء والمدح المبالغ فيه وكان في بعض الأحيان يذم هذا الممدوح دون أن يشعر
لذلك نراه بعدما ترك كافورًا الإخشيدي هجاه بأقذع الهجاء لأنه لم يُعطهِ ما كان يريد، فهو أي المتنبي لم يمدح كافورًا لأنه يحبه؛ بل لأنه كان طالب ولاية ومنصب ولمّا رأى أنّ كافورًا هذا لن يعطيه ما يريد عزم على المسير من عنده وكتب تلك القصيدة التي ستظل الأجيال ترددها إلى قيام الساعة:"عيدٌ بأية حالٍ عُدتَ يا عيدُ"
الشاهدُ في الموضوع أنّ شعرهُ في غير بني حمدان ماهو إلا وسيلة لكسب المال أو المنصب،وربما نجح في جمع الأموال ولكنه حتمًا لم ينجح في الحصول على ولاية كما كان يتمنى.
وفي نهاية المطاف إنّ المتنبي لم يكن شاعرًا عاديًا إطلاقًا بل كان أعجوبة عصره وسيظل المتنبي خالدًا في ذاكرة التاريخ، ويبقى هو السقف الذي يطمح اكمل شاعر أن يجتازه ولكن هيهات دون ذلك خرطُ القتاد!.