آخر تحديث :الإثنين-20 مايو 2024-01:47م

وقفةٌ مع العذريين ..

السبت - 06 يناير 2024 - الساعة 09:50 م

سالمين سعيد بنقح
بقلم: سالمين سعيد بنقح
- ارشيف الكاتب


أصبح مصطلح عاشق عذري يطلقُ على كل من كان حبه حبًا عفيفًا روحيًا لا جسدي،وفي الحقيقة سببُ هذه النسبة يعود إلى قبيلة عُذرة التي تعتبرُ من القبائل اليمانية وهم من قضاعة يعود نسبهم إلى حمير بن سبأ 
وهولاء كانوا إذا أحبوا أخلصوا في حبهم حتى يفنى الرجل منهم في سبيل من يحبها،فأصبح الناس كلما رأوا رجلًا شديدُ المقة قالوا:فلانٌ عاشقٌ عُذري،والعشاق العذريون كثر،منهم جميلُ بن معمر صاحب بثينة،وقيس بن الملوح،وكُثيّر عزة،وغيرهم.
واخترت اليوم واحدًا منهم للحديث عنه بشكلٍ يسير لإعطاءِ لمحةٍ بسيطة عنه وعن شعره،وهو كُثيّر عزة
وهو كُثيّر بن عبدالرحمن بن الأسود من قبيلة خُزاعة ولد سنة ٢٣هـ 
أحبَّ فتاة تدعى عزّة وتعلق بها أيما تعلق وأنشد فيها من الأشعار الشيء الكثير ولم يتزوجها كعادة العذريين من أضرابه،ولشدة تعلقه بها صار اسمها ملازمًا لإسمه كقيس ليلى وجميل بثينة،وله من الشعر الشيء الكثير،ومما يروى عنه أنه سُئل مرةً: (هل نلت من عزة شيئا طول مدتك؟ فقال: لا والله، إنما كنت إذا اشتد بي الأمر أخذت يدها فإذا وضعتها على جبيني وجدت لذلك راحة)

ومن أشهر شعرهِ قصيدته التائية التي تجعل المرء يقفُ مندهشًا أمام جمالها وروعتها وجودتها وجزالةِ ألفاظها ودقة معانيها ومبانيها.
خَليلَيَّ هَذا رَبْعُ عَزَّةَ فَاعْقِلَا
قلوصَيكُما ثُمَّ ابْكِيَا حَيثُ حَلَّتِ
وَمُسّا تُرابًا كَانَ قَد مَسَّ جِلدَها
وَبيتا وَظِلاَ حَيثُ باتَت وَظَلَّتِ
وَلا تَيأَسا أَن يَمحُوَ اللهُ عَنكُما
ذُنوبًا إِذا صَلَّيتُما حَيثُ صَلَّتِ!!
هذا المطلع من أجمل المطالع التي مرّت عليَّ في الشعر العربي،فهنا يخاطب صاحبيه ويأمرهما بالوقوف في ربع محبوبتهِ عزّة وأن يمسّا التراب الذي مسَّ جلد عزّة وأنكما إذا صليتم في المكان الذي صلت فيه عزة فلا شك أنّ الله سيغفر لكم ذنوبكم وهذه من المبالغات الجميلة في الشعر.
وما كنت أَدري قَبلَ عَزَّةَ ما البُكا
وَلا مُوجِعاتِ القَلبِ حَتَّى تَوَلَّتِ
وَما أَنصَفَت أَما النِساءُ فَبَغَّضَت
إِلينا وَأَمَّا بِالنَوالِ فَضَنَّتِ
وفي البيت الأول هنا يبيّن لنا أنه قبل أن نرحل عنه وتتركه لم يكن يعرفُ البكاء والحزن وموجعات القلب،ثم بعد أن تركته وتزوجت أنقلبت دنياه رأسًا على عقب.
وفي البيت الثاني يقول أنه لمّا أحبها أبغض كل الناس لأنها في عينه تساوي الجميع،ولكنها في نفس الوقت بخلت عليه بالوصال،فما نال منها ما كان يرجوه وكأنّ لسان حاله قول صريع الغواني:
"وما نلتُ منها نائلًا غير أنني
بشجو المحبين الأولى سلفوا قبلي"

فَإِنَ سَأَلَ الواشُونَ فِيمَ صَرَمتُها
فَقُل نَفس حُر ّسُلِّيَت فَتَسَلَّتِ
أَباحَت حِمًى لَم يَرعَهُ الناسُ قَبلَها
وَحَلَّت تِلاعًا لَم تَكُن قَبلُ حُلَّتِ
يُكَلِّفُها الخَنزيرُ شَتمي وَما بِها
هَواني وَلَكِن لِلمَلِيكِ اِستَذَلَّتِ
هَنيئًا مَرِيئًا غَيرَ داءٍ مُخامِرٍ
لِعَزَّةَ مِن أَعراضِنا ما اِستَحَلَّتِ
وَوَالله ما قارَبت إِلا تَباعَدَت
بِصَرمٍ وَلا أَكثَرتُ إِلّا أقلّت
وَلي زَفراتٌ لَو يَدُمنَ قَتَلنَنَي
تَوالي الَّتي تَأتي المُنى قَد تَوَلَّتِ
أَسِيئي بِنا أَو أَحسِني لا مَلومَةً
لَدِينا وَلا مَقلِيةً إِن تَقَلَّت
ثم يختمُ بهذا البيت المؤلم جدًا:
كَأَنّي وَإِيّاها سَحابَةُ مُمحِلٍ
رَجاها فَلَمّا جاوزَتهُ اِستَهَلَّتِ
والقصيدة طويلة وتستحق أن تحفظ لأنها من أجمل ما كتب في الأدب العربي.