آخر تحديث :الإثنين-20 مايو 2024-03:07م

الأطلال في الشعر العربي ..

السبت - 23 ديسمبر 2023 - الساعة 01:18 م

سالمين سعيد بنقح
بقلم: سالمين سعيد بنقح
- ارشيف الكاتب


للأطلال عند القدماء قيمةٌ روحية كبيرة،فهي تمثل الجذر الذي يرجعون إليه جميعًا،ولها ارتباطٌ كبير بمراتع صباهم فلا تراهم يمرّون بطللٍ بالٍ حتى يكرمونه بالبكاء عليه!
وقد قيل أنّ أوّل من وقف على الأطلال وبكاها هو امرؤ القيس ولكن هذا ليس ثابتًا ثبوتًا قطعيًّا؛لأنّ امرأ القيس ذكر في بيتٍ من أبيات قصيدتهِ الميمية أنه ليس هو أول من وقف عليها وبكى إذ قال:
عوجوا على الطللِ المُحيل لعلنا
نبكي الديار كما بكى ابن خِذامِ
وتروى "حِذامِ"،وابنُ خذامٍ أو حِذام على الروايتين لا يعرفُ له خبرٌ مفصلٌ في كتب الأدب ولكنه بلا شك أول من بكى على الأطلال،فجاء من بعده الملك الضليّل فأرسى قواعد البكاء وجعل له طقسًا خاصًّا عُرف فيما بعد بالبكاء والاستبكاء،وسار الشعراء من بعدهِ عليه.
وأيًّا كان من بدأ بهذا فقد صارت هذه العادة نهجًا تسير عليه العرب منذُ ذلك الحين إلى اليوم عند بعض الكلاسيكيين إن صحّت التسمية.
وقد افتتح امرؤ القيس معلقته الخالدة بالوقوفِ على الديار وبكى على عرصاتها ودمنها وطال وقوفه بها وما بَرِحَ حتى شفى غُلّته؛فقد مرّ على هذه الديار بعد زمنٍ بعيدٍ جدًا،فأعادت له الرسوم والآثار ذكريات اللهو وطيش الشباب بدايةً بيوم "دارة جلجل" إلى آخره ..
"قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسقطِ اللوى بين الدخول فحوملِ"
ومعلقته هذه تعتبر أثمنُ كنزٍ من حيث اللغة والبلاغة وبراعة التشبيه وجمالية النص بعد القرآن والسنة وهي الركن الذي يأوى إليه كل شاعر ولا غِنى لأحدٍ عنه.
وكذلك لبيد بن ربيعة رضي الله عنه معلقتهُ لا تخلو من ذكر الديار والأطلال فقد قال في مطلعها:
"عفتِ الديار محلها فمقامها
بمنىً تأبّدَ غولها فرجامها 
فمدافعُ الريان عُرّي رسمها
خِلقًا كما ضَمِنَ الوحيَّ سلامها"
ولهذه المعلقة وقعٌ خاصٌ في قلبي ولي معها صولاتٌ وجولات ولا أنفكُّ أرددُ أبيتًا منها بين الحين والآخر؛وما ذلك إلا لِمَ وجدتهُ فيها من جمالٍ في الأسلوب والصياغة
وعن مشهد التعبير عن الحسرة والألم يقول:
"فوقفتُ أسألها وكيف سؤالها
صُمًّا خوالدَ ما يُبينُ كلامها"
أما زُهيرُ بن أبي سُلمى عندما أراد أن يخبر عن طول غيابه عن هذه الديار وأنها بعده قد تغيّرت ودَرست قال:
"ودارٌ لها بالرقمتين كأنها
مراجعُ وشمٍ في نواشرِ معصمِ
بِها العِينُ والآرامُ يمشين خِلقةً
واطلاؤها ينضهن من كل مجثمِ
وقفتُ بها من بعدِ عشرين حجّةً
فلأيًا عرفتُ الدار بعد التوهمِ"
فقد طال غيابهُ عنها كثيرًا إلى درجةِ أنها لم تعد كما كانت وأنه لم يبقَ منها سوى الأثر الذي يدل على أنه كانت هنا ديار،وأنّ هذا الأثر أصبح كالوشم وهذا كنايةٌ عن طول الزمان وإلا لما أصبح هذا حالها،وإن كان في ذلك مبالغة إلا أنها من المبالغات الجميلة جدًا وهي مبالغةٌ جميلة إذا ما قِيست بمبالغات الشعراء الحداثيين الذين يخبطون خبط عشواء حتى لتحسبَ أنّ أحدهم لا يدري ما يقول فيهرفُ بما لا يعرف!.
والجدير بالذكرِ أنّ بعضهم كامرئ القيس وزهير عندما ذكروا تقادم العهد بهذه الديار ذكروا أنّ الظباء والبقر الوحشية قد سكنت هذه الديار وفي هذا ملحظٌ مهمٌ للغاية وهو أنّ الظباء في طبيعتها كائناتٌ تنفر من البشر ولا تأتي في الأماكن المأهولة،وهذه الديار لأنها لم تعد مسكونةً لفترةٍ طويلة سكنتها هذه الظباء وصارت تعتبرها مراتعها،إلى درجةِ أنّ امرأ القيس عندما رأى أكوام بعر هذه الظباء شبهها بحب الفلفل فقال:
"ترى بعرَ الآرامِ في عراصاتها
وقِيعانها كأنهُ حبُّ فُلفلِ"
فكم كانت مدة غيابه عن هذه الديار يا تُرى؟!
لا شك أنها مدة طويلة جدًا للدرجة التي جعلت البعر فيها بهذه الكثرة.
ودائمًا ما يستوقفني بيتٌ لحسان بن ثابت رضي الله عنه وأجدني دائم التفكير فيه والوقوف عنده كلما قرأتُ قصيدته التي يمدح فيها الغساسنة:
"أسألتَ رسم الدار أم لم تسألِ
بين الجوابي فالبضيع فحوملِ"
والبيت هو:
"فالعينُ عانيةٌ تفيضُ دموعها
لمنازلٍ درست كأن لم تؤهلِ"
انظر لجمال هذا البيت وروعته مع كمية الألم الذي حواه بين كلماته،فهو لا ينفكُّ يبكي على هذه الديار التي لم يبقَ منها شيء وكأنها لم تكن مأهولةً بالسكان يومًا ما.
من لي بمثل هولاء العرب وما اخطأ من قال بأنَّ العربَ أمة شاعرة بطبيعتها وتنظر للأمور نظرةً مختلفة.
وهم كذلك أوفياء وهذا الوفاء قد يتجاوز الحد المعقول في أشياء كثيرة،فلا يكاد العربي يمر على مكانٍ كانت له فيه ذكريات إلا ويكرمه بالوقوف عليه والبكاء.
وفي ظل حديثنا عن الأطلال لا بد أن نعرّج على قصيدة الملك الضليّل الرائعة التي افتتحها بالتحية على ذلك الطلل البالي الذي غيّره تقادم الزمان فقال:
"ألا عم صباحًا أيها الطللُ البالي
وهل يعمن من كان في العُصرِ الخالي"
وللنابغة الذبياني وقوفٌ آخر على الأطلال لكن وقوفه كان مختلفًا ولم يكن كغيره من الشعراء فقد كان وقوفه في ديار "ميّة" وقوف المستعجل ولم يلبث فيها إلا قليلا 
"يا دار ميّة بالعلياء فالسندِ
أقوت وطال عليها سالفُ الأبدِ
وقفتُ فيها أُصيلانًا أُسائلها
عيّت جوابًا وما بالربعِ من أحدِ"
كان هذا الوقوف وقوفًا مختلفًا لأنّ النابغة نظم هذه القصيدة في غرض الاعتذار.
والحديث في هذا الباب يطول كثيرًا والشواهد عليه أكثر من أن تُحصر أو تعد وما كتبته ماهو إلا نزرٌ يسير مما في بطون الكتب ..