آخر تحديث :الأحد-19 مايو 2024-04:28م

الهاشمية السياسية والعُقَد النفسية الثلاث

السبت - 30 يوليه 2022 - الساعة 06:16 م

مصطفى محمود
بقلم: مصطفى محمود
- ارشيف الكاتب


"الوطن" مفهوم تجريدي انتمائي يشمل المكانَ البشري معجوناً بذاكرة سوسيلو تأريخيه محددة تجعله متمايزاً عن بقع بشرية أخرى. وبهذا المعنى، فالبيت وطن، والمحلة وطن، والمقهى وطن، والزقاق وطن، والأصدقاء وطن، والعدل وطن، والمدينة وطن. وحينما يعجز المرء عن تمثّل وطنٍ ما في أعماقه، فمصيره المنفى النفسي: إما ببُعدِهِ الوجودي المتسامي، أو ببُعدِهِ الاغترابي العدائي.

وبالعكس، حينما يتحقق الوطنُ وجدانياً في أذهان العوام والنخب القاطنين في إطار مجتمعي معين، فإنه يصبح وقوداً أساسياً لنشوء "الدولة–الأمة" المنشودة؛ 

وتلك قفزة نوعية متقدمة في إدراك غايات الحياة لدى تلك الهاشمية السياسية  .في اليمن ، لا يشعر السلاليون بيمنيتهم  إلا حين يتعلق الأمر باقتسام مناصب السلطة وغنائم الدولة، واستصدار سندات المِلكية وجوازات السفر الدبلوماسية. فالوطن لديهم مفهوم سياسي لا هوياتي، يمكن تعظيمه تفاخراً والتباكي عليه حزناً والحديث عنه تحليلياً في وسائل الإعلام بلا حدود. أما الوطن الجي وسيكولوجي فلا مكان له في دوافعهم وأدائهم لأنه يعني إلغاءً فورياً لأحقية تمذهبهم التفتيتي والمؤَسْطَر بسرديات الماضي.

الهاشمية السياسية   في جوهرها الفلسفي تعني إلغاءَ المفاهيم التطورية المتدرجة للوجود البشري، وإلباسَ هذا الوجود مسمياتٍ إطلاقيه ماورائية تلغي نسبيات المكان والزمان الذي انبثقت منه موضوعياً تلك المفاهيم، وحشره في إطار تنظيمي ثيولوجي مستمد من "إرادة" الله وعلي بن ابي طالب.. والوطن هو واحد من هذه المفاهيم التي تستهدف العنصرية بكل ابعادها  تقويضها، بوصفه فكرة تطورية في الذهن البشري تكتسب معناها العاطفي–الاعتباري في نفوس الناس من جهة، ومعناها المؤسساتي–التنظيمي في إطارٍ دولتي مكاني من جهة أخرى... فإعلاء المفهوم الجي وسيكولوجي للوطن يعني قبولاً نفسياً ضمنياً بتجاورٍ آمن بين كل النقائض العِرقية والدينية والمناطقية  والمذهبية والعقائدية والطبقية. وهو ما يقع بالضد تماماً من ايديولوجيا الهاشمية السياسية  القائمة على مسلمتي "احتكار" الحقيقة، وامتلاك "مشروعية" تولي زعامة المجتمع بكل تنوعاته التكوينية المتمايزة.

ولذلك، فإن مسألة وجود مدينة يمنية  مزدهرة تتجاور فيها بأمان وتوافق كل العقائد الدينية والخيارات المذهبية والأصول العِرقية والاتجاهات السياسية والقيم الاجتماعية، إنما تعني تهديداً كاسحاً بانكشاف العقدة النفسية الأساسية الضمنية التي ينطلق منها السلاليون : ((إن وطننا الوحيد هو المنفى الذي نؤسسه في حياة اليمنيين لأننا سنظل منفيين وغرباء ما دام لليمنيين وطن!)).

إنهم استبدلوا خيار "الوطن" التجميعي المحدد سياسياً وذهنياً، بخيارٍ ميتافيزيقي تشتيتي لا حدود واقعية له لا سياسياً ولا ذهنياً. لقد ورطوا أنفسهم بأن أصبحوا "وكلاء" الله لتنفيذ "أحكامه" الأزلية في إطار سياسي نسبي متغير. ففقدوا بذلك إلى الأبد فرصة أن يكونوا وكلاء لوطنٍ يمنح العدل والأمان والكرامة لهم ولكل الناس.

فمثلما ترعبهم مفاهيمُ الجمال والنظافة والمستقبل، يرعبهم مفهومُ الوطن لكونه وعاءً إدراكياً وقيمياً شاملاً للمفاهيم السابقة، ولكونه يذكّرهم على نحو لاشعوري بمنفاهم الاغترابي وبطارئتهم ووقتيتهم وزوالهم القادم. فعقدة الوطن تحركهم دفاعياً في كل صراعاتهم السياسية "المستعصية" لإدامة هدم صنعاء  (رمز الوطن) وتجذير الرثاثة فيها سياسياً وجغرافياً وحضارياً ووجدانياً. فبهذا الهدم والترثيث وحدهما يجدون إرضاءً مريحاً لا واعياً لخوائهم التام من أي جذور انتماء نحو أي قيمة مدنية عقلانية.

أصبحت صنعاء  في العهد الحوثية السلالية  مقبرة  للأبنية المحطمة و المنخورة والسيارات المتفحمة والأشلاء البشرية المعجونة بالبارود  ، نتيجة الحرب السلالية  التي تشنها جماعه الحوثي  ضد اليمنيين  حول مفاهيم وهمية ماضوية لا وجود وظيفي لها إلا في أذهان  الهاشميين ، مدمنين على تعاطي تلك الخرافات  القابلة للدحض من أي عقل بسيط يحترم الإنسان والزمن.

فأصبح العيشُ في مناطق سيطرة الحوثي  يعني من الناحية الوجدانية مكوثاً اغترابياً وسط مشهد صراعي ينبعث من ماضٍ افتراضي خِلافي دارت أحداثه حول أحقية السيادة السلالية "المدعومة" من الله. فلا مناص أن يغدو المستقبل "سخفاً" أو "ترفاً" ما دمنا لم نجد حلاً بعد لمعضلات الماضي "الجوهرية"، بل وتصبح مغادرةُ.